الدعوة المثمرة
الحمد لله والصلاة والسلام على أفضل خلقه وخاتم رسله صلى الله عليه سلم
قد مر على اليقظة الإسلامية السلفية قرن من الزمان ولم يُكتب لها ما أرادت من عودة الريادة الإسلامية، رغم أن هذه المدة كانت كافية لقيام دول إسلامية سادت وكان لها دورها في التاريخ الإسلامي.
قد يؤخر الله ما يريده من منةٍ على خلقه لأنهم لم يتهيئوا بعدُ إلى تلك المنة، قال جل ثناؤه وتباركت أسماؤه في معرض ذكر قصة ميلاد موسى عليه السلام: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5]، ولم تتحقق هذه المنة واقعًا إلا بعد أربعين عامًا أو يزيد لأنهم لم يتهيئوا بعدُ لذلك، ثم كان النصر لما أوجد الله منهم جيلًا آخر نبت وترعرع وسط الأنبياء وبين أهل التوحيد.
وإن الله تعالى يصطفى لنصرة دينه والقيام بدعوته خيرة خلقه، فتثمر الدعوة إلى الله وتؤتي ثمارها على يد من تكون الأخلاق الحسنة عنده سجية وطبعًا، وإن لم تكن فقد عالجها وجاهدها؛ قام بها وقعد حتى صارت كذلك (إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، مَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ) [حسنه الألباني] فعالج الحلم وجاهده وكابد منه مشقة حتى صار حليمًا.
فإذا وجد من كان خلقه كذلك طبعًا وسجية ولم يكن مجرد مظاهر خادعة أو لمكاسب مادية أو معنوية زائفة؛ إذا وجد ذلك أثمرت دعوتنا وشقت طريقها إلى قلوب الخلق وتمكنت من الناس، وفتح الله لأهلها طريق القيادة والريادة.
ولي على ذلك شاهدان لا تخطئهما عين باصرة:
الأول: السبب الذي ذكرته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها في قصة نزول الوحي، فلقد ذكرت أن الله تعالى لا يخزي ولا يفضح ولا يهين من تكون هذه هي صفاته وخصاله، لقد قالت له مبشرة ومطمئنة رضي الله عنها: (أبشر؛ فوالله لا يسوؤك الله أبدًا؛ لأنك تصدق الحديث، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الخير).
أو (قالت: أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، ووالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).
لقد (رأت أن من جعله الله على هذه الأخلاق الشريفة، المتضمنة لعدله وإحسانه، لا يخزيه الله فإن حكمة الرب تأبى ذلك) [منهاج السنة النبوية].
فقد كانت بينةُ صدقِه صلى الله عليه وسلم في دعواه النبوة والرسالة هي نفسَه الشريفة صلى الله عليه وسلم، وما أوتي من خصال طبع عليها.
(إن البينة هي نفس الرسول في شخصه، لما كانوا يعرفونه قبل مجيئه، وبما كان متصفًا به صلى الله عليه وسلم، ومن جميل الصفات كما قالت له خديجة عند بدء الوحي له وفزعه منه) [أضواء البيان باختصار].
فـ {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] فإن (الرسالة فضل من الله - تعالى - يختص به من يشاء من خلقه، ولا يختص بهذه الرحمة العظيمة، والمنقبة الكريمة، إلا من كان أهلًا لها بما أهله هو من سلامة الفطرة، وعلو الهمة، وزكاء النفس، وطهارة القلب وحب الخير والحق) [تفسير المنار باختصار].
ولقد اهتدى الصديق رضي الله عنه (بمعرفته بحاله وما فطر عليه من كمال الأخلاق والأوصاف والأفعال، وأن عادة الله ألا يخزي من قامت به تلك الأوصاف والأفعال؛ لعلمه بالله ومعرفته به وإنه لا يخزي من كان بهذه المثابة، وكذلك استدلت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها بمعرفتها بالله وحكمته ورحمته على أن من كان كذلك فإن الله لا يخزيه ولا يفضحه، بل هو جدير بكرامة الله واصطفائه ومحبته وتوبته، وهذه المقامات في الإيمان عجز عنها أكثر الخلق فاحتاجوا إلى الآيات والخوارق والآيات المشهودة بالحس) [مفتاح دار السعادة بتصرف واختصار يسيرين].
(وكان أذكياء العرب في الجاهلية على شركهم بالله تعالى يعلمون أن الصادقين محبي الحق وفاعلي الخير من الفضلاء أهل لكرامته - تعالى - وعنايته كما يؤخذ من استنباط أم المؤمنين خديجة) رضي الله عنها [تفسير المنار].
نعم هناك من العرب ومن قريش من لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد معرفته بصدقه وجميل خصاله ونقاوة طبعه وصفاته، منعهم الكبر أو الحسد أو هوى النفوس، وهؤلاء لم تنفعهم البيانات من صفاته وأخلاقه أو حتى من خوارق العادات والآيات المشهودة بالحس.
فلما خلا الأخنس بأبي جهل قال له: يا أبا الحكم! أخبرني عن محمد: أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ها هنا من قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمدًا لصادق، وما كذب محمدٌ قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجاب والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 34] [رواها ابن جرير في (التفسير) وذكرها ابن كثير في التفسير، وهي من مراسيل السُّدِّي]، لقد منعه الحسد وهوى النفس وحب الدنيا والرياسة من الإيمان به بعد يقينه من صدقه.
والشاهد الثاني: هو الصدّيق نفسه رضي الله عنه، فكما كانت معرفته بصفات النبي صلى الله عليه وسلم وما طبع عليه هادية له، فقد كان هو كذلك، فقد طبع على صفات وجبل على أخلاق كانت علامة صدقه في الدعوة إلى الله تعالى.
ففي أثر أم المؤمنين عائشة الصديقة الأريبة الأديبة قالت: (لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرًا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك.
فرجع وارتحل معه ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش، فقال: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلًا يكسب المعدم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة...).
لقد كان (مؤلفًا محببًا يعاون الناس على مصالحهم، كما قال فيه ابن الدغنة سيد القارة، وفي صلح الحديبية لما قال لعروة بن مسعود قولًا شديدًا، فقال له: «لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك».
وما عرف قط أن أحدًا كانت له يد على أبي بكر في الدنيا لا قبل الإسلام، ولا بعده) [منهاج السنة النبوية. بتصرف شديد واختصار].
إن هذه الأفعال (تدل على جودة الطبع، وعلو الهمة، وكرم العنصر، وإباء النفس، لا يوفق لها إلا مخلص وإن كان غير مستند إلى شرع، تدل على سلاسة الطبع، وصفاء الجبلة، وجودة العنصر، وسهولة الانقياد وإلى عظمة الإيمان.
فلم تحمله حمية الأنف وشماخة النفس على الإباء عن أن يكون تابعًا بعد ما كان متبوعًا، وسافلاً في زعمه إثر ما كان رفيعًا، بل سدد النظر الفكر فأيقن أنه يعلي نفسه من الحضيض إلى ما فوق السهى، يرقيها في درج المعالي إلى ما ليس له انتهاء.
فحينئذ يعلم استقامة طبعه، وكرم غريزته، وعليّ همته، وحسن نيته، وجميل طويته، وغزارة عقله، وجلالة نبله وفضله، واستحقاقه التقدم على الأعلام في الجاهلية والإسلام، ولذلك كان الصديق رضي الله تعالى عنه أعلى الناس درجة بعد النبيين عليهم أفضل الصلاة والسلام، لأن هذه كانت أفعاله رضي الله تعالى عنه قبل الإسلام، كما قال ابن الدغنة) [نظم الدرر بتصرف واختصار].
ثم إن التخلق بهذه الأخلاق هو البر والإيمان وليس مجرد الظاهر قال جل جلاله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
أي [ليس هذا هو البر المقصود الجامع لكل معاني الخير، الذي حرص الدين عليه حرصًا كاملًا، بل هو إلى الشكل أقرب، أو هو الوسيلة وما يكون من الأمة هو الغاية العليا من كل دين جاء من الله تعالى لهداية البشر، وتوجيههم نحو الصلاح الإنساني آحاد وجماعات؛ صلاحًا يمس نفوسهم ويملأ قلوبهم إيمانًا، وليس في العبارة السامية ما يومئ إلى الاستهانة بأمر القبلة، بل إن فيها توجيهًا إلى الناحية التهذيبية والكمالية للإنسان في آحاده، وجماعاته) [زهرة التفاسير].
إن (البرّ- الذي يجب الاهتمام به- هو هذه الخصال التي عدّها جلّ شأنه) [محاسن التأويل].
وهي سبب لحب الله للعبد، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (إنّ الله عزّ وجلّ كريم يحب الكرماء ويحب معالي الأمور، ويكره سفسافها).
ومن هنا نفهم قاعدة جليلة في اختيار القادة والدعاة إلى الله تعالى حتى تصفو الدعوة وتثمر وتؤتي- بإذن الله- أكلها:
(النَّاسُ مَعَادِنُ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا).
(معناه: إن أصحاب المروءات ومكارم الأخلاق في الجاهلية؛ إذا أسلموا وفقهوا فهم خيار الناس) [شرح النووي على مسلم].
لقد كانت قاعدة مستقرة: (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ) فقد قال بعدها:( فَوَالله! لاَ أَدَعُ شَيْئا صَنَعْتُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلاَّ فَعَلْتُ فِي الإِسْلاَمِ مِثْلَهُ).
إن هذه الخصال وتلك الخلال ينصر الله أهلها ولا يخزيهم، وتجد دعوتهم طريقها إلى قلوب الناس، فإذا لم يستجَب لبعضهم بعد ذلك فحسبه (وَيَأتِي النَّبِيُّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ).
(إن الأرض الصالحة للاستنبات ينبغي أن تسقى بالماء الزلال).
وأعوذ بوجه الله الكريم أن أعظ غيري وأنسى
نفسي. والحمد لله رب العالمين.