فقه الخلاف.. بين رؤية الدعوة السلفية.. ورؤى أخرى

فقه الخلاف.. بين رؤية الدعوة السلفية.. ورؤى أخرى
الأحد ١٣ مارس ٢٠٢٢ - ١٣:٢٨ م
264

فقه الخلاف.. بين رؤية الدعوة السلفية.. ورؤى أخرى

كتبه/ وائل سرحان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم.. وبعد..

لقد بدأت يقظة سلفية بين طلاب الجامعات المصرية في بدايات السبعينيات من القرن الماضي في وقت انتشرت فيه البدع والخرافات فضلًا على الأفكار المنحرفة المعادية للإسلام كالشيوعية والقومية وغيرها مع بدع وخرافات الصوفية، وكان قد بدأ بالفعل تجفيف منابع النهضة التي بدأت قبل قرن من الزمان وبدأ قطْعُ الأمة الإسلامية عن تراثها وحضارتها.

نشأ هؤلاء الطلاب متأثرين بالمنهج السلفي الذي كان بقاؤه ثمرة من ثمار جهود الشيخ محمد رشيد رضا والشيخ محب الدين الخطيب والشيخ محمد حامد الفقي وغيرهم وبدءوا يعملون في الجامعات المصرية المختلفة باسم (الجماعة الإسلامية)، وكان الإخوان المسلمون ساعتها لا يزالون في السجون، فلما خرجوا انبهروا بهذا العمل الطلابي الذي تعدى أسوار الجامعة وعم معظم محافظات مصر، وطفقوا يتصلون في سرية تامة بالشق الإداري في الجماعة الإسلامية واستطاعوا أن يستميلوه بعيدًا عن الشق العلمي بها، إلى أن أعلن هذا الشق الإداري - بعد أن زل أحدهم فانكشف أمرهم - انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين.

وظل الشق العلمي بها ثابتًا على المنهج السلفي ومثلته المدرسة السلفية بالإسكندرية وهي (الدعوة السلفية) الحالية، أما الجماعة الإسلامية في الصعيد وأسيوط خاصة، فاحتفظت وتمسكت بالاسم وانتهجت نهج العنف المسلح مع الأنظمة القائمة وغير ذلك من أفكار.. مع وجود الإسلام العام عند جموع المصريين.

فتعتبر الدعوة السلفية الحالية هي الامتداد الصحيح للحركة الشبابية الطلابية في السبعينات فهي التي حافظت على نقاء المنهج العقدي السلفي، وهي كذلك التي انتشرت في كل بقعة من أرض مصر وانتشرت كذلك دعوتهم خارجها، وهم أولئك الذين نعرض رؤيتهم وأطروحتهم حول الخلاف بين الاتجاهات الإسلامية.

لقد انفرط عقد الجماعة الإسلامية-التي اجتمع عليها الشباب في مختلف الجامعات وشتى المحافظات - مع وجود الإخوان المسلمين، وتعددت الاتجاهات في طرق ودروبٍ مختلفة، أصابت وأخطأت، وكان لكل اتجاه أو جماعة من هذه الجماعات منهجه ورؤيته للأحداث، تظهر مدى اقترابه أو ابتعاده عن الثوابت والأصول، وكان لكل جماعة أهداف مرحلية قد تكون حققت بعضها وأخفقت في البعض الآخر.

وقد حدث الخلاف بين الاتجاهات الإسلامية في يقظتنا المباركة -في مصر وخارجها- وأصبح أمرًا واقعًا، وقدرًا كونيًّا، وهذا أمر كان دائمًا ما يقلق المخلصين من أبناء هذه الصحوة المباركة؛ فهو علة عوّقت مسيرة الحركة الدعوية.. وأخرت الريادة الإسلامية.

ولقد تعددت الرؤى والأطروحات لعلاج هذا الخلاف وسده، ونعرض هنا لأبرز ما وقفت عليه من تلك الرؤى:

(1) بعض هذه الأطروحات أو الرؤى رأت أن الإشكال الحقيقي هو التصادم بين الحرص على نقاء المنهج واستقامة السلوك، وبين وحدة الأمة وعدم تفرقها وتشرذمها، وبناء على ذلك جاءت هذه الرؤية تتسم بالعاطفية في طرح الحلول دون أن تضع ضابطًا واضحًا للتعامل مع الخلاف بأنواعه المتباينة، سوى أنها أوصت بتوصيات - تتسم أيضًا بالعموم - بأهمية الوحدة والاجتماع وإمكان العمل بالمفضول في مسائل الاجتهادية وترك الفاضل؛ رعاية لمصلحة الاجتماع والائتلاف، وغرضه من ذلك تجييش الأمة وحشدها في خندق المواجهة مع أعداء الإسلام.

ويؤخذ على هذه الرؤية أنه ليست كل الاختلافات من باب ترك الفاضل أو العمل بالمفضول.

(2) وقسمت بعض هذه الرؤى الاختلاف إلى ثلاثة أقسام:

الأول: الاختلاف في الأصول والعقائد، وحددته بأنه خلاف فرق الضلالة كالخوارج والمعتزلة، ونفت وجوده بين أهل السنة.

الثاني: الاختلاف في الفروع والمسائل الاجتهادية، وحددته بأنه خلاف المذاهب الفقهية والاختيارات العلمية، وقالت عن هذا النوع أنه لا ينكر أحد على أحد عمله باجتهاد آخر، وكأنها بهذه العبارة تحدد كيفية التعامل مع هذا النوع من الخلاف.

الثالث: الاختلاف في الآراء ومسائل العقل ومجالات السياسية الشرعية، وحددته بأنه خلاف في المصالح المرسلة، وقالت عن هذا القسم أن الأمر فيه يرجع إلى حكم القاضي أو المحكم أو الإمام الشرعي، ويجب على الناس الطاعة لهم ما لم يتعلق الأمر بمخالفة أمر قطعي أو بمعصية ظاهرة، ويكأنها بهذا أيضًا تحدد كيفية التعامل مع هذا القسم من الخلاف.

ويؤخذ على تلك الرؤية أنه يوجد خلاف في بعض مسائل الاعتقاد، ومع ذلك يسعنا الخلاف فيها، كما وسع السلف، فليست كل مسائل الاعتقاد محل إجماع أو اتفاق بين أهل السنة، كما أن من مسائل الفروع ما هي محل إجماع لا يسع فيها الخلاف.

(3) ورؤية ردت الخلاف القائم بين الاتجاهات الإسلامية إلى الاختلاف في مناهج العمل وأساليب التغيير؛ بناء على التفاوت في تكييف الواقع والتفاوت في ترتيب الأولويات اللازمة لمواجهته، كما رأت أن مرد الخلاف القائم الآن ليس إلى الخلاف حول الأصول الثابتة في منهج أهل السنة، وأما ما كان من خلل جزئي فإن مرجعه الخطأ في تطبيق بعض هذه الأصول بجهل أو بضعف تأويل.

ويؤخذ على تلك الرؤية عدم إدراك واقع المسلمين أو واقع الاتجاهات الإسلامية جيدًا، فهناك خلاف تضاد حادث بين من ذكرتُ في مسائل الأصول وفي نسبة أقوال معينة لأهل السنة.

(4) وحددتْ رؤية من هذه الرؤى أطروحتها بذكر ضوابط علمية للاختلاف، هي ضوابط الخلاف بين الفقهاء، كرد الاختلاف إلى الكتاب والسنة، والتفريق بين الأدلة القطعية والنظرة الشمولية والاطلاع على خلاف العلماء.

ويؤخذ عليها القصور وعدم استيعاب جوانب الخلاف الحادث بين المسلمين أو بين الاتجاهات الإسلامية.

(5) وطرحتْ رؤية مثيلتها العلاج على أنه دراسة وفهم أحكام الخلاف المقررة في علم "أصول الفقه"، والتي تساعد على إيجاد مساحة من المرونة الفكرية والفقهية تسمح بالتعامل مع المجتمع وأفراده، كما تسمح بالأخذ والتعاطي مع الأدلة -حتى الأدلة المخالفة - طالما أن الشريعة الإسلامية تسمح بها.

(6) واكتفتْ بعض الرؤى بأن طرحت آدبًا للاختلاف هي الآداب العامة التي ينبغي أن يتحلى بها كل مسلم مع من يخالفه، سواء كان فقيهًا أو داعية أو غير ذلك، كما اكتفت أن تجعل الخلاف نوعين: ممدوحًا ومذمومًا، أما المذموم فالاختلاف في العقائد والاختلاف مع أهل البدع كالخوارج وكذلك الاختلاف الناتج عن التقليد، أما الاختلاف الممدوح فهو ضد ذلك، وتميزت بالتركيز على حسن الخلق مع المخالف وذكرت شواهد لهذا من سير السلف الصالحين رضي الله عنهم، أما الخلاف السائغ تبعًا لهذه الرؤية فهو اختلاف المجتهدين من فقهاء ومفتين وحكام في المسائل الاجتهادية.

(7) واكتفتْ رؤية أخرى بذكر سبب الخلاف بأنه أمراض القلوب كالهوى والحسد والكبر، وأخرى نظيرتها قسمت الخلاف بناء على دوافعه إلى خلاف سببه الهوى وخلاف أملاه الحق.

ويؤخذ على هذه الرؤى ما أخذ على الرؤى السابقة.

(8) واكتفتْ بعض الرؤى لعلاج هذا الخلاف ببيان أهمية التعدد في هذه المرحلة، ومنها:

(1) استيعاب أكبر عدد ممكن من المسلمين داخل العمل الإسلامي.

(2) التعاون على تحقيق الأهداف المشتركة.

(3) فسح المجال لأكثر من تجربة عملية داخل الصف الإسلامي.

(4) شيوع روح التنافس للوصول للأكمل.

(5) ضمان استمرار العمل الإسلامي في حالة المحن.

(6) توسيع دائرة الخبرة في نطاق العمل الإسلامي.

(7) تكميل الصورة الإسلامية، فما أهملته بعض الاتجاهات اهتم به آخرون.

وفات معظم هذه الرؤى المعرفة والخبرة بواقع الجماعات الإسلامية، فالكل ربما ينشد وينادي بالوحدة وجمع الصف ضد العدو الموحد، لكن تبقى أسباب الاختلاف قائمة ويبقى عدم تحديد كيفية التعامل معه قائم كذلك.

أما رؤية الدعوة السلفية للخلاف فترى أنه:

(*) ليس كل الخلاف على درجة واحدة، فهناك خلاف يمكن استثماره حتى تقوم الأمة بجمع من المهام الدعوية والفروض الكفائية، التي هي موزعة بين الاتجاهات الإسلامية.

(*) ويوجد خلاف لا يمكن فيه ذلك لكن ينبغي احتماله، وله من ضوابط وآداب الخلاف ما يمنع إفساده لذات البين وغيره من أضرار، مع السعي إلى تضييقه ما أمكن.

(*) وهناك خلاف غير مقبول ينبغي مواجهته حتى يتلاشى أو لا يكثر أنصار المخالفين فيه على الأقل، وهو ما فات هذه الرؤى العاطفية الداعية إلى الوحدة والائتلاف دون اعتبار الواقع، فهناك من الخلاف ما لا يمكن معه الاجتماع والائتلاف، فكان لابد من توضيح كيفية التعامل مثلا مع هذا النوع من الخلاف.

وتميزت رؤية الدعوة السلفية بالإضافة إلى أنها حددت بوضوح أنواع الخلاف بين المسلمين، ولم تجعله كله نوعًا واحدًا يُقبل كله أو يرفض كله، أنها حددت أيضًا ضابط كل نوع وكيفية التعامل مع هذه الأنواع، وهي كذلك أسقطت ذلك على واقع الاتجاهات الإسلامية اليوم.

وتميزت كذلك بأن الآداب التي طرحتها لم تتسم بالعموم؛ إنما حددت الأمراض ووضعت آدابًا لأمراض حادثة بالفعل بين الاتجاهات الإسلامية، ومن ميزات هذه الأطروحة أيضًا كثرة الأمثلة لمسائل وقع فيها الخلاف بين أبناء اليقظة الإسلامية.

كمالم تكن رؤية الدعوة السلفية - كغيرها - أطروحةً "من فرد، بل هي من دعوة قائمة بحمد الله ينتشر أبناؤها في أماكن شتى، بفضل الله وعونه".

أصل هذا المقال هو مقدمتي لكتاب (حاشية على كتاب فقه الخلاف بين المسلمين. للدكتور ياسر برهامي) من إصدار (أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم) سنة 2013م، وقد اختصرت المقدمة وزدت فيها وعدلت، بما يناسب كتابة المقال.

والحمد لله رب العالمين.

أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم

الكلمات الدلالية