قراءة في كتاب: أثر عمل المرأة في النفقة الزوجية.
قرأه/ محمود الشرقاوي.
أصل هذا الكتاب: بحث محكم في فقه القضايا المعاصرة بعنوان (نفقة الزوجة في ضوء متغيرات العصر).
المؤلف: هو أ. د. عبد السلام بن محمد الشويعر حاصل على الدكتوراه في الفقه المقارن من المعهد العالي للقضاء التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سنة ١٤٢١ هـ، بمرتبة الشرف الأولى.
أستاذ مشارك بقسم العلوم الشرعية والقانونية في كلية الملك فهد الأمنية وهو من طلاب الشيخ ابن باز - رحمه الله -، ووالده هو محمد بن سعد الشويعر، جامع فتاوى ابن باز -رحمه الله- ومدير مكتبه.
أهمية البحث: هذه المسألة من المسائل الفقهية التي لم يتطرق لها جل فقهائنا المتقدمين بسبب اختلاف طبيعة العمل في الأزمنة المتقدمة، مقارنة بالأزمنة المتأخرة وأصبح حاليا عمل المرأة حقا تكفله الأنظمة الحقوقية في العالم، في حين كان العرف عند الأوائل أن عمل المرأة من باب التكليف والمشقة عليها وهل عمل المرأة يؤثر في مقدار النفقة عليها؟ هذا ما يقرره في هذا البحث.
نبذة عن البحث:
المبحث الأول علة إسقاط النفقة عند الفقهاء:
قال يوجد حقوق للزوجة علي الزوج أحدها النفقة، والأصل عند الفقهاء أن علة وجوب النفقة هو المقابلة بين ما تبذله المرأة مما وجب عليها من آثار عقد النكاح، لكن اختلف العلماء في موجب هذه النفقة على قولين:
1- من يرى أن النفقة واجبة بالعقد فقط.
2- من يرى أن النفقة واجبة للمرأة في مقابل أمر زائد على العقد - وهذا هو رأي جمهور الفقهاء.
واختلف في تحديد هذا الأمر: فقيل: إن النفقة في مقابل الاحتباس فقط، وقيل: إنها في مقابل التمكين، وقيل: الأمرين وهذا، القول هو الأقرب، وبناء على ذلك فإن الإخلال بهذا الموجب يسمى "نشوزا"، ويعد مسقطا للنفقة.
* علاقة عمل المرأة بمسألة النشوز:
النشوز له صور متعددة منها: انتقال المرأة من منزل الزوج، أو سفرها بدون إذنه أو بدون حاجة، وعند البحث في نفقة المرأة العاملة نجد أن المناط الفقهي لهذه المسألة إنما هو في خروجها من بيت الزوجية بدون إذن.
لذلك فإنه لا بد من التعرض لمسألتين فقهيتين مهمتين تبنى عليهما هذه المسألة وهما:
الأولى: نفقة الناشز. الثانية: تبعيض النشوز.
1. نفقة المرأة الناشز اختلف الفقهاء فيها على قولين:
الأول: النشوز يسقط النفقة. الثاني: أن النشوز لا يسقط النفقة وهو قول الجمهور.
ويتفرع على ذلك حكم تشطير النفقة بتبعيض النشوز: وتبعيض النشوز أي عدم التمكين التام في كل الأوقات، بل يحصل التمكين بعض اليوم، وتفوته في باقيه. فإذا كانت المرأة تخرج نهارا بدون إذن زوجها للعمل، وتأوي إلى بيت الزوجية ليلا. فيظهر لنا هنا أنه قد تبعض النشوز ويكون تشطير النفقة باستحقاق المرأة لبعض نفقتها دون باقيه، وذلك بناء على التقدير العرفي للنفقة، ثم يشطر بعد ذلك.
وقد اختلف الفقهاء في تشطير نفقة المرأة عند تبعض نشوزها على رأيين:
الأول: أن نفقتها تسقط بالكلية. الثاني: أن نفقتها لا تسقط، وإنما تشطر النفقة وهو أقرب دليلا، وتعليلا; لأن المرأة لم تمتنع بالكلية من زوجها وإن فوتت عليه بعض حقه بالخروج نهارا
المبحث الثاني: آراء الفقهاء في إسقاط النفقة الزوجية بعمل المرأة بدون إذن زوجها.
ثلاثة آراء فقهية:
القول الأول: أن نفقتها تسقط حال عملها بدون إذن زوجها بشروط، بخلاف أيام الإجازات لا تسقط فيها النفقة ولكل يوم حكم يخصه وهذا الرأي مبني على أن الناشز تسقط نفقتها.
القول الثاني: أن النفقة الزوجية لا تسقط مطلقا بعمل المرأة واحترافها، ولو بدون إذن الزوج. وهذا الرأي مخرج على قول من يرى أن النشوز لا يسقط النفقة الزوجية، وخصوصا أن القوانين المعاصرة كفلت للمرأة حق العمل، فأصبح حقا مستحقا لها.
والحقيقة أن في ذلك نظرا؛ لأن الناظر للمقاصد الشرعية العامة في النكاح يجد أن من أظهرها السكن، ولزوم المرأة لبيتها وعدم خروجها، ففي القول بأن العمل حق مشروع للمرأة على إطلاق دون أي تقييد بإذن أو حاجة مخالفة بينة لمقاصد الزواج.
القول الثالث: أن المرأة العاملة خارج المنزل بدون إذن زوجها لا تسقط نفقتها بالكلية، وإنما تتشطر وينقص تقديرها.
وهذا القول يمكن تخريجه في مسألة تشطير النفقة.
ومال المؤلف إلى القول الثالث وهو رأي وسط بين الرأيين وذكر أدلته.
المبحث الثالث: نطاق الفقهاء في هذه المسألة:
أي متى يحكم بتشطير النفقة ومتى يحكم بلزوم النفقة كاملة لزوجته العاملة. ومتى تسقط نفقة المرأة العاملة بالكلية؟
1-الشروط التي يلزم توافرها للحكم بتشطير نفقة المرأة العاملة: ألا يكون عمل المرأة محرما شرعا.
وألا يكون مستغرقا اليوم كله.
وأن يكون عمل المرأة خارج المنزل.
وألا يكون العمل واجبا عينيا عليها شرعا.
وأن يكون الزوج باذلا لنفقة زوجته الكافية لها.
وعدم إذن الزوج بعمل المرأة.
2- مسقطات النفقة على المرأة العاملة بالكلية: وهذه نوعان:
أحدهما: أن يكون عمل المرأة محرما شرعا. ويلحق بذلك أن تتبرج بإظهار الزينة، والاختلاط المحرم بالرجال ونحو ذلك.
الثاني: أن يكون عمل المرأة مستغرقا اليوم كله.
3- الأسباب التي توجب النفقة كاملة للمرأة العاملة وهي أربعة أمور:
أحدها: ألا يكون عمل المرأة خارج المنزل.
فإذا كان عمل المرأة داخل بيت الزوجية كالنسج، أو العجن، أو العمل عن طريق وسائل الاتصال الحديثة كالنت، فإن ذلك لا يسقط النفقة، ولو كانت المهنة تضعفها. لأنها سلمت نفسها تسليما كاملا، والعلة في ذلك أن موجب النفقة إنما هو الاحتباس أو التمكين، وكلاهما موجودان في هذه الصور.
الثاني: أن يكون العمل واجبا عينيا عليها شرعا.
وقد مثل بعض الفقهاء لبعض المهن والأعمال التي يكون خروج المرأة إليها واجبا مثل القابلة، أو مغسلة الموتى، وقرروا أنه يجوز لها أن تخرج بغير إذن الزوج، وعللوه بأن فوات عمل القابلة يترتب عليه هلاك الجنين أو أمه، وتغسيل الميت من فروض الكفايات التي يأثم الناس بتركها.
وبعض فقهاء الحنفية يجيزون للزوج أن يمنع زوجته من الوظائف السابقة (القابلة، والمغسلة) بناء على أنها من الواجب الكفائي لا العيني. وهذا في الحقيقة راجع لاختلاف الحال، لا الحكم.
وقد توسع بعض المعاصرين في هذا المناط فأدخل في الواجبات الكفائية: تدريس المرأة للبنات، وعمل المرأة طبيبة، أو ممرضة، ونحو ذلك، وفي هذا التوسع في مناط المسألة نظر، ولا أعلم أن أحدا من الفقهاء أجاز للمرأة الخروج للفرض الكفائي على إطلاق، وإنما هو في حال تعين هذا العمل عليها.
الثالث: أن يكون الزوج غير باذل لنفقة زوجته الكافية لها. فلو امتنع الزوج من نفقة زوجته لإعساره، أو شح بالنفقة ولم يبذلها ومطلها إياه، جاز للمرأة النشوز.
الرابع: إذا رضي الزوج بعمل زوجته خارج بيتها وأذن لها فيه، فعند جمهور الفقهاء لا تسقط النفقة.
* صور إذن الزوج بعمل زوجته: أربع صور هي:
1-الإذن الصريح عند إبرام عقد الزوجية أو بعد الزواج.
2-الإذن الضمني. وصورته أن يعلم الزوج بخروج امرأته للعمل، ولا يمنعها أو أن يقوم بإعانتها على العمل بتوصيلها لمقر العمل.
3-الاشتراط النصي في العقد. وذلك بأن تشترط المرأة أو وليها على الزوج عند عقد النكاح أن تعمل المرأة، أو ألا يمنعها من العمل. وقد اختلف في هذا الشرط هل يكون ملزما للزوج أم لا على رأيين:
أحدهما: أن هذا الشرط غير ملزم، ولا يجب الوفاء به. لأنه يخالف حقا ثابتا بالعقد للزوج وله أن يتراجع عن هذا الشرط.
الثاني: أن هذا الشرط يلزم الوفاء به، ولا تسقط به النفقة. لعموم الأدلة على جواز الاشتراط في النكاح ولزوم الوفاء بها.
ولعل هذا الرأي أقرب لتحقيق المناط في مسألة شروط النكاح.
4-الاشتراط العرفي في العقد. وذلك أن يتزوج الرجل بامرأة يعلم أنها موظفة، وقد اختلف في هذه المسألة على رأيين:
الأول: ذهب بعض المعاصرين إلى أن الزواج من المرأة الموظفة كالأمر المشروط في العقد.
الثاني: ذهب بعض المعاصرين إلى أن هذا العلم السابق ليس شرطا في العقد، وإنما هو بمثابة الإذن الضمني فحسب فيجوز للزوج الرجوع عنه. ولعل هذا الرأي أقرب، وبالتالي يحق له أن يمنعها من الخروج لوظيفتها، فإن عصت فإنها تعد ناشزا.
* مسألة: المعاوضة على الإذن بالعمل: المراد بهذه المسألة أن يأذن الزوج بعمل زوجته على أن يأخذ عوضا منها في مقابل هذا الإذن ويمكن تقسيم المعاوضة على الإذن بالعمل إلى صورتين:
الأولى: أن يكون الإذن في مقابل إسقاط النفقة الزوجية أو بعضها.
فالظاهر أن هذا الاتفاق صحيح وتستفيد المرأة من الإذن رفع الإثم عنها، إضافة لبقاء الألفة بين الزوجين وإزالة مسببات التشاحن.
الثانية: أن يكون الإذن في مقابل عوض مالي غير إسقاط النفقة، كأن يشترط الزوج جزء من راتب زوجته أو أن تتولى الزوجة مؤنة النفقة على أبنائهما، فإن له حالتين:
1- فإن كان هذا العوض في مقابل عمل من الزوج، كأن يقوم بتوصيل الزوجة لعملها، أو بمرافقتها فيه، ونحو ذلك فإنه يستحق عليها الأجرة بالمعروف.
2- وأما إذا كان هذا العوض في مقابل الإذن بالعمل فقط. فإن حكم هذه المسألة متفرع عن كون هذا الإذن هل يصح المعاوضة عليه، أم لا، ففيه رأيان لأهل العلم:
الأول: أن هذا الحق لا يصح المعاوضة عليه وهو قول الحنفية، وأحد القولين عند المالكية، ومشهور مذهب الحنابلة.
الثاني: أنه يصح المعاوضة على الإذن وسائر الحقوق الزوجية. وهو قول عند المالكية.
وعلى القول بجوازه فلا بد من تقييده بعدم المضارة، بل بطيب النفس من الزوجة لكيلا يكون ذريعة للتعسف في استعمال الزوج لحقه بالإذن من أجل مساومة المرأة على بذل المال.
رجوع الزوج عن إذنه لزوجه بالعمل خارج البيت له حالتان -باعتبار نوع الإذن-:
الحالة الأولى: إذا رجع الزوج عن الإذن وكان مشروطا عليه في العقد: وقد اختلف الفقهاء في صحة هذا الشرط، وسبق أن الراجح هو القول بصحة هذا الشرط في عقد النكاح ولزومه وللزوجة حق الفسخ للعقد دون مقابل منها.
الحالة الثانية: إذا رجع الزوج عن الإذن ولم يكن مشروطا عليه في العقد: الأصل أن الإذن هو الإباحة للفعل بعد الحظر، والأصل فيه جواز الرجوع في الإباحة من قبل المبيح، وقد رأى بعض المعاصرين- تأثرا ببعض قوانين الأحوال الشخصية العربية- أنه لا يجوز للرجل الرجوع عن إذنه للزوجة بالعمل، وهذا الرأي تبناه عدد من الذين كتبوا في هذا الموضوع من المعاصرين وهذا الرأي فيه نظر.
والصحيح: أن للزوج الرجوع عن إذنه لامرأته بالعمل.
التعسف في استعمال الحق في الرجوع عن الإذن بالعمل:
التعسف في منع المرأة من العمل يتصور وقوعه إذا أذن الزوج ابتداء بالعمل ثم تراجع عن إذنه. وأما عدم الإذن ابتداء فيه فإن هذا استمساك بالأصل فلا يتصور فيه التعسف في استعمال الحق.
وصورة التعسف هنا بأن يكون مقصده من التراجع عن الإذن بعملها ليس مصلحة الأسرة، أو مصلحة الزوج نفسه بتحصيل التمكين، وإنما أراد معنى آخر غير معتبر شرعا وليس حقا له، مثل قصده الإضرار والنكاية بالمرأة، أو بقصد التضييق عليها، كتفويت مكافأة نهاية الخدمة عليها، أو الراتب التقاعدي، أو لأجل أن يساومها على المعاوضة على الإذن.
وهذا التعسف في استعمال الحق محرم شرعا يدل عليه قول الله تعالى: (وَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ لِتَذۡهَبُواْ بِبَعۡضِ مَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ ) [النساء: 19]، وقوله تعالى: (وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡهِنَّۚ) [الطلاق: 6].
وهل التعسف سبب لإلغاء الرجوع عن الإذن ووجوب النفقة على الزوج؟
فإن تقرير ذلك مردود للقاضي إذا ثبت عنده التعسف صح منه الحكم بلزوم النفقة مع عمل المرأة، وإلغاء تراجع الزوج عن إذنه لها بالعمل، فيكون حكمه بذلك من باب معاملة الزوج بنقيض قصده.