شهادة المرأة.. الحكم والأحكام.. بحث مختصر (1 – 2)

شهادة المرأة.. الحكم والأحكام.. بحث مختصر (1 – 2)
الأحد ١٢ يونيو ٢٠٢٢ - ١٨:٣٨ م
1161

شهادة المرأة.. الحكم والأحكام.. بحث مختصر (1 – 2)

كتبه/ وائل سرحان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم.

يثار موضوع شهادة النساء بين الحين والحين وتثار حوله الشبهات، وأمر الشهادة له أهمية معروفة، ومسألة الشهادة ترتبط بأبواب فقهية متعددة ومتنوعة، ويمس حياة الناس اليومية، وتأتي الشهادة في المرتبة الثانية -بعد الإقرار- بين وسائل الإثبات الشرعية، فهي حجة شرعية يجب العمل بها متى توافرت ضوابطها الشرعية.

وسأتناول موضوع شهادة النساء في هذ البحث السريع والمختصر، في جزئين:

الأول: شهادة المرأة الحكم والشبهات.

 الثاني: أحكام شهادة المرأة.

أما الجزء الأول -وهو ما نتناوله الآن- فسأعرضه في مدخل ومبحثين:

مدخل:

خلق الإنسان من أجل عبادة الله فكان لابد له من عمارة الأرض ليتمكن من تلك العبادة وتتيسر له، فكان لابد من تنظيم الحقوق بين الأفراد والأسر والجماعات في أنواع المعاملات للحفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والمال، سواء كانت حقوقا للحفاظ على الضرورات أو حقوقا للحفاظ على الحاجيات المتعلقة بهذه الكليات، والشهادة إحدى طرق وضمانات إثبات هذه الحقوق، وهي المرتبة الثانية من مراتب الإثبات بعد الإقرار. 

والأصل أن يتساوى الرجل المسلم البالغ العاقل الحر العدل بالمرأة المسلمة البالغة العاقلة العدل الحرة في الإشهاد على هذه الحقوق، باعتبار أنهما متساويان في الحقوق والواجبات. 

ومن جهة أخرى فإن المرأة مكلفة شرعا كالرجل تماما، وتطالَب بالإيمان والعبادات والأخلاق والمعاملات وسائر الأحكام الشرعية كالرجل سواء بسواء، إلا ما خصص استثناءً لكل منهما، لحكَم واعتبارات فطرية وواقعية.

وبالتالي فإن المرأة مسئولة مسئولية تامة عن جميع ما يصدر منها في الدنيا والآخرة كالرجال، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

وللمرأة الأهلية التامة -كأهلية الرجل- في التملك وإجراء العقود والتبرعات وسائر التصرفات، ولا حجر عليها في مالها وتصرفها، إلا للأسباب التي يحجر بها على الرجل.

ولا نقصان في عقل النساء فيما هو مناط التكليف، وإلا لما كُلفت المرأة أصلاً بما يكلَّف به العقلاء.

ولقد جاء المنهج الإسلامي موافق للفطرة في تقسيم الوظائف وتقسيم الأنصبة بين الرجال والنساء، لا لحساب جنس منهما بذاته، ولكن لحساب هذه الحياة الإنسانية التي تقوم وتنتظم، وتستوفي خصائصها وتحقق غايتها من تعمير الإنسان للأرض، وعبادة الله بهذه العمارة عن طريق هذا التنوع بين الجنسين، والتنوع في الخصائص والوظائف الذي اقتضاه الاختلاف الفسيولوجي البحت بين الجنسين.

إن الاختلاف بين الرجل والمرأة هو اختلاف اختصاص لا اختلاف انتقاص، وإن ما بينهما من التفاضل فإنما هو لتكتمل الحياة فوق هذه الأرض، فتتوازن المتطلبات والاختصاصات، وتعمر الأرض بالتكامل والتعاون بينهما، لا بالتنافس والتسابق.

إذن: إذا كان الإسلام قد اعتبر إنسانية المرأة مساوية لإنسانية الرجل، فما باله فضل الرجل عليها في بعض المواقف والأحوال، وجعل شهادة المرأة على النصف من شهادته؟

هذا ما سيتضح- إن شاء الله- من خلال المبحثين التاليين: 

المبحث الأول: الحكم من اختلاف شهادة الرجل بالمرأة في بعض الأحوال

إن الفروق والاختلافات بين شهادة الرجل والمرأة جاء لحكم- وأحكام الشرع كلها لحكم بالغة- نعرض منها ما تصل إليه أذهاننا، ومن ذلك:

(أ) وجود فروق طبيعية بين الرجل والمرأة تؤثر في الشهادة. 

والقاعدة العلمية تقول: (اختلاف التركيب العضوي ينتج عنه اختلاف الوظيفة، واختلاف في التكاليف الشرعية لكلٍّ من الرجل والمرأة). 

فيوجد اختلاف بيولوجي وفسيولوجي ونفسي ووظيفي طبيعي وحتمي بين الرجل والمرأة له أثره في التفرقة بينهما في بعض الأمور، بل يوجد اختلاف في تكوين المخ.

والإثباتات العلمية تؤكد مدى الاختلاف العقلي بين الرجل والمرأة، واختلاف دماغ الذكر عن دماغ الأنثى، وتثبت وجود اختلافات نفسية بين الرجل والمرأة، وكذلك اختلافات عاطفية، فعاطفة المرأة أقوى من عاطفة الرجل، فضلًا عن ضعف المرأة في الخصومة، وأن حياءها أشد من حياء الرجل، بل هناك اختلاف في الإدراك الحسي بينهما.

وعلى سبيل المثال يظهر هذا الاختلاف في أمور، منها:

(1) اشتغال المرأة بالحمل، والوضع والرضاع.

(2) اشتغال بدنها بالدورة الشهرية، وما يصاحب ذلك من مشاعر نفسية تتناسب مع تلك الحالات البدنية.

(3) وجود جهاز عصبي ينظم الوظائف لكل من الرجل والمرأة.

(4) القوة البدنية في الرجل، والتخلي البدني عن تبعات النسل، بما يؤهله للاشتغال بالأعمال ذات الطبيعة الخشنة التي تتطلب سعيا، ومزاحمة وقوة شكيمة لإنجازها.

فلهذا الاختلاف والفروق الطبيعية أثر في شهادة المرأة، فهذا الفرق الجذري والجوهري بين الرجال والنساء من الناحية البيولوجية والفسيولوجية والعقلية والنفسية، وهذه الاختلافات الطبيعية لا بد أن تستتبع اختلافًا في نظم الحياة المتصلة بكلٍّ من الرجل والمرأة استجابة للفطرة، ولا بد أن يكون لها بالغ الأثر في شهادة كل منهما، وهذا من أسباب الفوارق بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات والأعباء، ومنها الشهادة.

ويمكن بيان أثر هذه الاختلافات فيما يلي:

أولًا: أثر الاختلاف البيولوجي بين الرجل والمرأة على شهادة المرأة:

يوجد عدد من الأعراض النفسية المصاحبة للمرأة أثناء الحيض، منها:

(1) النسيان. ولذلك قال الله تعالى: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) [البقرة: 282] |أي تنسى، وهذا من الإعجاز القرآني.

(2) التغيرات المفاجئة في المزاج.

(3) القابلية للاستثارة.

(4) ضعف التركيز.

(5) التوتر.

وأكثر هذه الأعراض وضوحا هو تغير المزاج، والذي يمكن أن يبلغ درجة من الحدة الشديدة، وقد يجتمع كل من التوتر والقابلية للاستثارة، لينتج عنهم حالة عدوان، وقد يدفعها هذا بسهولة إلى شهادة الزور. 

إن حالات الحيض والحمل الولادة والإرضاع لها أثر نفسي وعقلي على المرأة، تكون المرأة خلالها في أسر الطبيعة، لا إرادة لها فيما يتواتر عليها من أحوال وظروف، فهي لا بد وأن تنزل على حكم الطبيعة مختارة أو مجبرة، مشدودة بين قوانينها وسننها؛ لذلك خفف الشرع عن المرأة التكليف الشرعي حال حيضها. والحمل والرضاع، فلا يستغرب ولا يستنكر تخفيف الشهادة عنها، لما يعرض لها من حالات.

ثانيًا: أثر الاختلاف الفسيولوجي والوظيفي على شهادة المرأة.

إن الفروق الفسيولوجية بين الرجل والمرأة لها بالغ الأثر في شهادة المرأة، فالجسر الصعبي الموجود في أسفل جذع مخ المرأة، المسئول عن الشعور الحسي والانفعالات، أوضح في تكوينه منه في الرجل، بسبب هذا التفاوت، ونتيجة لزيادة نسبة الدم المتدفق من قلب الرجل إلى جسمه، وضعف ذلك عند المرأة، نجد المزاج العصبي عند المرأة أكثر تهيجا من مزاج الرجل، وهذا يؤدي إلى:

(1) نسيان ما يجب تذكره إذا ما استدعيت للشهادة؛ لذلك جاء الحكم الشرعي باستشهاد امرأتين في الأموال؛ لتذكر الواحدة الأخرى إذا نسيت.

(2) اختلاط المعلومات لديها.

(3) عدم التدقيق في عرض أقوالها.

(4) توتر حالتها النفسية.

(5) كما أن التركيب الدماغي لدى الجنسين له أثره في الشهادة، فإن للرجل مركزا للكلام في مخه في أحد الفصين، ومركزا للذاكرة في الفص الآخر، فإذا اشتغل مركز الكلام عند الإدلاء بالشهادة، فلا يؤثر على المركز المتخصص بالذاكرة، فالرجل يستعمل فصا واحدا لحل مسألة من مسائل التفكير، مما يجعله أكثر تخصصا ودقة في ضبط الكلام؛ فلا يحدث لديه التشويش في الذاكرة عند الكلام. 

أما المرأة فلها مركزان في فصي المخ مختلطان يعملان لتوجيه الكلام وللذاكرة، فإذا تكلمت المرأة اشتغل المركزان بالكلام، فكلا جانبي دماغ المرأة يستخدمان في معالجة اللغة، وقد يؤثر ذلك على جزء الذاكرة التي فيها المعلومة المطلوبة للشهادة.

ثالثًا: تأثير الحالة النفسية للمرأة على أداء الشهادة.

تمتاز المرأة بشدة الحساسية وقوة الانفعال وعدم التريث، وقد تؤثر هذه الحالة النفسية، وبالذات عاطفتها الجياشة في شهادتها عامة، وفي الحدود والقصاص خاصة.

** أما تأثيرها في الحدود والقصاص، فيظهر وجه ذلك بما يلي:

(1) من المسلم به أن الحدود تدرأ بالشبهات، وشهادتها في القتل وأشباهه تحيط بها الشبهة، شبهة عدم إمكان تثبتها من وصف الجريمة كما هي لحالتها النفسية عند وقوعها؛ لذلك استبعد العلماء شهادة المرأة في الخصومات الجنائية التي قد تثير عاطفتها سلبا، أو إيجابا.

(2) من جهة أخرى فإن قوة عاطفة المرأة تجعلها تطغى أحيانا على ما وصل إلى إدراكها، فتشكله بصورة أخرى، وتغير كثيرا من حقيقته من حيث لا تشعر هي بذلك، فاقتضت العدالة أن يتخذ شيء من الاحتياط حيال شهادتها، فاستبعدت شهادتها في الأمور المؤدية إلى نتائج خطيرة، كالشهادة على الزنا، واعتد بشهادتها منفردة عن الرجال إلا في الأمور النسائية الخالصة التي لا يعرفها غير النساء، وجعلت شهادة المرأتين فيما عدا هذا وذاك معادلة لشهادة رجل واحد.

وقد بني الاطمئنان النسبي إلى شهادة المرأتين واعتبارها كشهادة رجل، على أساس نفسي سليم، ذلك أنه يندر أن يكون الاتجاه العاطفي الذي سيطر على إحداهما -فأبعد شهادتها عن الواقع- هو ذات الاتجاه الذي تسلط على الأخرى، فتصلح كلتاهما ما في شهادة الأخرى من زيف غير مقصود، وتذكر كلتاهما الأخرى بحقيقة ما ضلَّت فيه، وما حرفته عاطفتها عن موضعه.

(ب) طبيعة الرجل الاجتماعية والوظيفية

الرجال هم الذين يزاولون الأعمال عادة في المجتمع السوي، الذي لا تحتاج المرأة أن تعمل فيه لتعيش، فتجور بذلك على أمومتها وأنوثتها، وواجبها في رعاية أثمن الأرصدة الإنسانية وهي الطفولة الناشئة الممثلة لجيل المستقبل مقابل ثمن بخس تناله من عملها، كما تضطر إلى ذلك المرأة في المجتمع النكد الذي نعيشه اليوم.

فالمرأة بفطرتها واختصاصها لا تشتغل عادة بالأمور المالية والمعاملات المدنية، وليس من الواجب عليها الاحتكاك بجمهرة الناس لتشهد هذه الأمور، فمن هنا تكون ذاكرتها فيها ضعيفة.

ولا تكون كذلك في الأمور المنزلية التي هي شغلها، فإنها فيها أقوى ذاكرة من الرجل، ومن طبع البشر عامة أن يقوى تذكرهم للأمور التي تهمهم ويمارسونها، ويكثر اشتغالهم بها، ولا يزال أكثر النساء كذلك، لا يشهدن مجالس المداينات، ولا يشتغلن بأسواق المبايعات، واشتغال بعضهن بذلك لا ينافي هذا الأصل الذي تقضي به طبيعتها في الحياة، كما أن الأحكام تبني على الغالب. 

وكثيرا ما يشغل المرأة ما يشغل النساء عادة، من شئون البيت، إن كانت زوجة، والأولاد إن كانت أمّا، والتفكير في الزواج إن كانت أيما، ومن ثم يكون تفكيرها بعيدا عن شئون المعاملات، فقلة ممارسة المرأة لجانب المعاملات قد يفقدها الاستيعاب الكامل لجوانب الموضوع، وبالتالي قد تنقص شيًئا من الحق فيما تشهد به.

(ت) المحافظة على الستر

ومن هذه الحكم: المحافظة على الستر بخصوص جرائم كبيرة، مثل الزنا والقذف. فجريمة الزنا جريمة بشعة لما يترتب عليها من آثار مدمرة تلحق الأفراد والأسر والجماعات.

ولهذا فإن الحكمة تقتضي الستر بقدر الإمكان، ولذا اشترطت الشريعة لإثباتها شروطًا معينة منها شهادة أربعة رجال عدل أحرار يقومون بوصف منضبط لفعل الزنا.

 والعقل يقر أنه لا يليق بالمرأة أن تنقل هذا الوصف وتشاهده وتتحدث به أمام مجلس التقاضي، لما فيه من خدش لحيائها، الذي جبلت عليه، وبناء على هذا فالمصلحة تقتضي عدم قبول شهادة المرأة المسلمة على جريمة الزنا وما يوجب حدا لقذف. 

وأما ما يوجب القصاص وبقية الحدود الأخرى، فهي مما يطلع عليه الرجال غالبا، وهذه جرائم كبيرة فيحتاط لها مالا يحتاط للأموال، ولهذا شدد الشارع في طرق إثباتها، فلم تقبل فيها شهادة النساء على رأي الجمهور. 

(ث) أما الحكمة من إقامة شهادة امرأتين مسلمتين عدل مقام شهادة رجل مسلم عدل حر في الأموال، وعدم مساواتها بالرجل في الإشهاد على هذه الأموال وما سواها مما يطلع عليها الرجال غالبا، فتظهر في أمور، منها: الغفلة والنسيان، وهما وإن كانا من سمات الإنسان، ذكرا كان أم أنثى، لكنهما من طبع المرأة أكثر من الرجل في الأموال والحقوق الأخرى التي يطلع عليها الرجال غالبا، لقلة خبرة المرأة فيها، وعدم اهتمامها بالسعي، لتأمين النفقة لها غالبًا، لأنها غير مكلفة بها شرعا، ولقيامها بحقوق الزوج وحقوق الأبناء والبنات.

وفي التذكير تنبيه لها من امرأة أخرى إذا غفلت أو نسيت، وذلك حفظًا المال من الجحود او النكران.

وكذلك أمر العاطفة، كما سبق، والمرأة مهما تعلمت ووصلت إلى درجة علمية مرموقة، فهي تتصف بهذا النقص بحكم عاطفتها وقلة اطلاعها على الحقوق التي يطلع عليها الرجال غالبا، ولهذا فإن علمها وتعلمها لا ينفيان عنها هذه الصفة الملازمة لها.

(ج) ومن هذه الحكم: تقليل معاناة المرأة والتخفيف عنها قدر المستطاع، فتقلل من معالجتها وملابستها للمثول أمام القضاء ومعاناة إجراءته وما فيه من العبء النفسي والمادي، إذا ما قلنا بمساواتها بالرجل من كل الوجوه في الإشهاد على المال، وما يقصد منه المال، وكذا الحقوق الأخرى.

(ح) ومنها: التقليل من اختلاطها بقدر الإمكان بالرجال الأجانب والنساء الأجنبيات خاصة في ساحة القضاء، وفي هذا الاختلاط من الخطر عليها ما لا يخفى.

المبحث الثاني: شهادة المرأة بين الحقائق والشبهات.

كثيرًا ما تثار الشبهات (الواهية) حول أمر شهادة النساء، وأنها تنتقص من كرامة المرأة وإنسانيتها.

ويجاب على ذلك: بأن التفاوت في الشهادة لا علاقة له بالإنسانية، ولا بالكرامة ولا بالأهلية، وليس انتقاصا من إنسانية المرأة، بل امتياز لها كما سيأتي.

فما دامت المرأة إنسانا كالرجل، كريمة كالرجل، ذات أهلية كاملة لتحمل الالتزامات المالية كالرجل، لم يكن اشتراط اثنتين مثلا مع رجل واحد إلا لأمر خارج عن كرامة المرأة واعتبارها واحترامها.

فتمييز الرجل عن المرأة في الشهادة، ليس لأن جنس الرجل أكرم عند الله وأقرب إليه من جنس المرأة، فإن أكرم الناس عند الله أتقاهم، رجلاً كان أو امرأة، لكن هذا التمييز والتفاوت بين الجنسين، اقتضته الفوارق الطبيعية التي لا مناص منها بين الرجل والمرأة (كالفارق البيولوجي والفسيولوجي والنفسي والوظيفي الطبيعي الحتمي بينهما)، فاقتضى ذلك التميز في الوظيفة التي خصصتها الفطرة السليمة لكل منهما، ومدى استعداد كل منهما لتحمل تبعات معينة، ومدى دربته في بعض الميادين، ومدى قدرته على إعطاء أفضل النتائج في بعض الشئون، من غير أن يؤثر شيء من هذا على الأهلية الكاملة، والشخصية المستقلة لكل منهما.

ولو توهم بعض الناس أن في هذا إهانة لكرامة المرأة المسلمة بالرغم مما وصلت إليه من علم وثقافة فالجواب عنه بالآتي:

(1) أن هذا الوهم مدفوع بقبول شهادة النساء فيما يطلعن عليه غالبا، كالولادة والبكارة وعيوب النساء.. فقد قبل الشارع شهادة النساء منفردات في هذه الحقوق؛ لأنها مما يطلعن عليه غالبا، ولا يجوز للرجال رؤيتها، لكونها من عورات النساء.

 (2) أما المساواة بين الرجال والنساء، فالشريعة الإسلامية قد ساوت بينهم في الحقوق الإنسانية، وعدلت بينهم في الحقوق المادية كالإرث مثلًا. 

لكن هذه المساواة هناك ما يعرض لها شرعًا فيمنعها ويحل محلها العدل، ويسمى هذا المانع بالمانع الشرعي، مثل تحريم تعدد الأزواج بالنسبة للمرأة، فالشارع قد حرم على المرأة تعدد الأزواج، بينما أباح للرجل ذلك في حدود أربع نسوة، ولم يقل أحد إن في هذا إهانة بالمرأة، بل الجميع يسلم أن مساواة المرأة بالرجل في ذلك يعتبر إهانة كبيرة واساءة بالغة بها، فكذلك القول في حالة عدم مساواة المرأة بالرجل في الشهادة على ما يوجب حدا أو قصاصا أو تعزيرا، فليس فيه ثمة إهانة لها.

وكما يوجد ما يعرف بالمانع الطبيعي، وهو يمنع مساواة المرأة بالرجل في المطالبة بالإنفاق على الأسرة، فطبيعة الرجل العمل في جميع الأمكنة والأزمنة، وليست المرأة، ولهذا فإنها غير مكلفة شرعًا بالإنفاق على الرجل والأبناء والبنات، ولم يقل أحد أن في هذا إهانة لها، بل الجميع يسلم بأن الرجل هو المكلف شرعا بالإنفاق على الأسرة، وفي هذا تكريم للمرأة وتشريف لها، وصون لعنتها.

(3) إنه نظرًا لأهمية الشهادة من بين وسائل الإثبات الشرعية فقد حرصت الشريعة على أدائها بصدق وأمانة؛ لذلك عزز الإسلام الشهادة مطلقا، فعزز شهادة الرجل بشهادة رجل آخر. قال الله (واستشهدوا شهيدين من رجالكم)، ولم يعتبر أحد أن ذلك مس بكرامة الرجل.

وعند عدم كون الشاهدين من الرجال، والمصير إلى شهادة المرأة، عززت شهادتها بشهادة امرأة أخرى، كما في آية الدين.

(4) أحكام شهادة المرأة في التشريع الإسلامي امتياز لها، فهي من باب حصانة الشاهد، بمعنى حمايته من احتمالات التعرض له أو لأسرته من قبل المدعى عليهم، وحمايته من إلحاق الضرر به.

فالأنظمة القانونية الوضعية حتى الغربية منها، وضعت امتيازات للشاهد تعطيه الحق في بعض الأحيان من الامتناع عن أداء الشهادة كليا.

فعدم جواز شهادة المرأة في الأموال أو في الحدود مثلًا، قد يكون من باب الحصانة لها، والامتياز الممنوح لها ولأسرتها.

(5) والمتأمل في النصوص الواردة في الحدود والشهادات عليها، يلحظ نزع الشريعة إلى ترسيخ مبدأ الستر على الناس، وعدم إشاعة الحديث في الفواحش والمعاصي، فإعفاء المرأة من الشهادة في هذا المجال يمكن اعتباره من الامتيازات المتعلقة بحماية الشاهد وحصانته.

(6) الشهادة ليست تشريفا، بل تكليف فيه على المرأة تخفيف:

إن الشهادة ليست مما يتدافع عليه الناس، بل هي عبء ثقيل، تجعل الشاهد يتهرب منه أحيانا، وفي نهى القرآن الكريم عن ذلك إشارة إلى هذا المعنى، قال تعالى: ﴿وَلَا يَأۡبَ ‌ٱلشُّهَدَآءُ ‌إِذَا ‌مَا ‌دُعُواْۚ ﴾ [البقرة: 282]

فمن أعفي من هذه المسؤولية فقد خفِّف عنه، وقد نص القرآن الكريم على العديد من أنواع التخفيفات، وفقًا لمقتضيات الحال، كالترخيص في الفطر للمسافر، والقصر والجمع، وإعفاء المرأة من فرضية الجهاد، وإعفائها من الصلاة والصيام حال حيضها ولم يعد هذا التخفيف إهانة، بل نعمة تستوجب شكر المنعم، فكذلك التخفيف عنها في الشهادة التي هي تكليف وأمانة يحملها الشاهد.

فالشهادة تكليف ومسؤولية، فعندما يخفف الله عن المرأة في الشهادة فهذا إكرام لها.

(7) ولو قيل إن المرأة العصرية غير المرأة قديما فقد حازت اليوم أعلى الشهادات الجامعية، فلما لا يكون للعامل العلمي تأثير في جعل شهادة المرأة كشهادة الرجل، كيف تصبح شهادة حاملة الدكتوراه نصف شهادة بواب العمارة الأُمي؟ 

يقال إن علة عدم قبول شهادتها في بعض الأمور وعلة استشهاد امرأتين مقابل رجل، علة ملازمة للمرأة لا تنفك عنها باختلاف الاعصار والأمصار؛ لأنها تعود إلى الحالات النفسية والوظيفة الاجتماعية الفطرية التي تعتري المرأة حيث يكون لها أثر ما في أداء شهادة واضحة كوضوح الشمس.

وما دام الاعتماد في الشهادة على الذاكرة، فما حاجة القراءة والكتابة والشهادات حتى يُستند عليها وتجعل حجة في تغيير الحكم الشرعي.

كما أن المعتبر في الشهادة أيضًا هو ما تراه العين واقعًا، فالمشهود عليه لا يحتاج إلى علم، ولا إلى درجات علمية، ولا إلى عقلٍ درس حتى درجة الدكتوراه، ولكنه محتاج إلى عينٍ تشهد، وأذن تسمع، ولسان يصدق، لا غير.

واحتمال نسيان المرأة وغفلتها عن بعض جوانب المشهود عليه وارد في النساء جميعا، لا يغيره زيادة علم ولا خبرة ولا ثقافة؛ لأنه يرجع إلى التكوين الطبيعي للمرأة الذي يشغلها ببعض جزئيات الموضوع المشاهد عن النظرة الشمولية له، وهذه صفات مشتركة لبنات حواء أجمع، 

ولابد من الإشارة أن الأحكام تبنى على الغالب، وأن منطق الثقافة لا يعتد به إذا خالف نصا شرعيا.

(8) أما كون شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، فليس على إطلاقه، بل في الأمور التي يغلب عليها دراية الرجل وبعده عن العاطفة، كالمعاملات المدنية والصفقات التجارية، وأحكام الأبدان، وبعد المرأة عن المعاملات المالية، وعدم اختصاصها في هذا المجال. 

كما أن شهادة المرأة تساوي شهادة الرجل في اللِّعان، فلو كانت الأنوثة والذكورة تلعبان دورا في قيمة الشهادة ومدى شرعيتها، لسمت شهادة الرجل على شهادة المرأة في هذا الباب أيضًا، أي لكانت شهاداتها الأربع بقيمة شهادتين فقط من شهاداته، ولكن الواقع أنهما متساويان.

وشهادة المرأة تساوي شهادة الرجل في رؤية هلال رمضان، على الراجح.

وشهادة المرأة وحدها تقبل فيما يخص النساء، بينما لا تقبل شهادة الرجل الواحد قط، ولا بأي حال من الأحوال. ولهذا تكون المرأة قد امتازت عن الرجل بهذه الخاصية.

وكذلك إذا نسيت المرأة جزءًا من الشهادة ذكرتها المرأة الأخرى، بينما الرجل إذا ترك شيًئا من شهادته ردت شهادته ولم تقبل. وهذا امتياز آخر للمرأة في أمر الشهادة.

(9) إن المساواة المطلقة بين الجنسين غير متصورة هنا لاختلاف الجنسين كليا، منها الاختلاف في القدرات الذاتية لكلٍّ منهما، أما المساواة الحقيقية والصحيحة بين الرجل والمرأة فتعني منح الفرصة المتكافئة للرجل والمرأة على حد سواء في إبراز كلٍّ لمواهبه وقدراته وتكريم كلٍّ منهما بقدر إخلاصه لهذه المواهب والقدرات.

لقد وضع التشريع الإسلامي الرباني الأمور في نصابها، وأعطى كل ذي حق حقه من غير مبالغة ولا تقصير، فقد ساوى المرأة بالرجل في كثير من الحالات التي يقتضيها العدل والمصلحة.

إذن مسألة شهادة المرأة لا تعلق لها بكرامة المرأة أو الانتقاص منها، أو التقليل من شأن أهليتها، بل المراد صيانة الشاهد والمشهود عليه، والتأكد من تذكر ما وقع من أحداث، ومطابقته للوقائع.

الكتب التي اعتمدت عليها في هذا الجزء من المختصر:

شهادة النساء دراسة فقهية قانونية مقارنة، أحلام محمد إغبارية. رسالة ماجستير.

حكم شهادة النساء في العقوبات في الشريعة الإسلامية، أ د محمد حسن أبو يحيى.

حكم شهادة النساء فيما سوى العقوبات مما يطلع عليه الرجل غالبا في الشريعة الإسلامية، أ د محمد حسن أبو يحيى.

والحمد لله رب العالمين.

أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم

الكلمات الدلالية