الصوفية رؤية من الداخل (29) أثر الهندية على الصوفية

الصوفية رؤية من الداخل (29) أثر الهندية على الصوفية
الاثنين ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٣ - ١٤:٠٠ م
167

  الصوفية رؤية من الداخل (29) أثر الهندية على الصوفية 

  كتبه / إمام خليفه                                

الحمد لله وكفى , وسلام على عباده الذين اصطفى لا سيما عبده      المصطفى , وآله المستكملين الشرفا, وبعد..

سوف نكمل الكلام اليوم بإذن الله تعالى عن :  أثر الديانات والمذاهب الأخرى في الصُّوفيَّة ونتكلم ثانياً : عن أثر المذاهب الهندية في الصوفية:-

 

أثر المذاهب الهندية:

لقد عنى الهنود بالتركيز على الجوانب الروحية على حد زعمهم وهو ما جلب إعجاب الصُّوفيَّة به، ومن ذلك شدة تعذيبهم للجسد لتصل الروح إلى الصفاء والخلاص، وقد عرف عن بوذا قصة طويلة حاصلها أنه أخضع نفسه لتقشف شديد وعاش على الحبوب والكلأ بل اقتات الروث ورقد على الشوك ونام بين الجيف كل هذا ليتصل بكل ما يسمونه (النرفانا) فيحصل له الإشراق وينال الراحة والطمأنينة.

ومما يدل على ذلك:

أولًا- معظم أوائل الصُّوفيَّة من أصل غير عربي كإبراهيم بن أدهم، وشقيق البلخي، وأبي يزيد البسطامي، ويحيى بن معاذ الرازي فلربما أثرت فيهم بيئاتهم التي نشأوا فيها والتي كانت خليطا من ثقافات مختلفة مثل خراسان وغيرها من البلاد التي تربوا فيها في بداية نشأتهم.

ثانيًا - أن تركستان كانت قبل الإسلام مركز تلاقي الديانات والثقافات الشرقية والغربية، فلما دخل أهلها في الإسلام صبغوه بصبغتهم الصُّوفيَّة القديمة.

ثالثًا - أن الصُّوفيَّة أنفسهم يعترفون بوجود الأثر الهندي. فالزهد الإسلامي الأوَّل هندي في نزعته وأساليبه. كالرضا فكرة هندية الأصل، واستعمال الزهاد للمخلاة في سياحتهم، واستعمالهم للسبح، عادتان هنديتان.

ومن مظاهر التأثر بالهندية:

1 -الجوع والتعري من مبادئ البوذية: فجلّ تماثيل البوذا وصور رجال الديانات الهندوكية كلها ناطقة منبئة عمن أخذها القوم هذه القباحة والوقاحة، حتى إن طائفة من طوائف الجينية تسمى (ويجامبرة) أي أصحاب الزي السماوي، الذين لم يتخذوا كساء لهم غير السماء، وهم الذين يقولون: >إن العرفاء الكاملين لا يقتاتون بشيء، وإن من يملك شيئًا من متع الدنيا ولو كان ثوبًا واحدًا يستر به عورته لا ينجو<.

قال أبوطالب المكي: >روينا عن عيسى أنه قال: أعروا أجسادكم أجيعوا أكبادكم لعلّ قلوبكم ترى اللّه D <.

قيل لأبي يزيد البسطامي: >بأي شيء وجدتَ هذه المعرفة؟ ببطنٍ جائع وجسدٍ عارٍ! <

وذكر الشعراني قطب زمانه إبراهيم العريان يقول: إذا دخل قرية يسلم على أهلها كأنه يعرفهم واحدًا واحدًا وكان يخطب في الناس عريانًا.

وذكر أن طائفة وصل بهم الحال إلى ترك الأكل مدة أربعين يوًما  ومنهم من كان ينقص كل ليلة ربع سبع الرغيف حتى يفنى الرغيف في شهر، ومنهم من كان يؤخر الأكل ولا يعمل في تقليل القوت ولكن يعمل في تأخيره بالتدريج حتى تندرج ليلة في ليلة.

٢-هجر الأولاد والأهل والجلوس في البريات ودخولهم الصحراء بلا زاد ولا ماء. قال أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ: سمعت أبا الْحُسَيْن الْفَارِسِيّ يَقُول سمعت أحمد بْن عَلِيّ يَقُول قَالَ رجل لأبي عَبْد اللَّهِ بْن الجلاء مَا تقول فِي الرَّجُل يدخل البادية بلا زاد، قَالَ: هَذَا من فعل رجال اللَّه قَالَ: فَإِن مات قَالَ الدية عَلَى القاتل.

قَالَ ابن الجوزي: هذه فتوى جاهل بحكم الشرع إذ لا خلاف بين فقهاء الإسلام أنه لا يجوز دخول البادية بغير زاد وإن من فعل ذلك فمات بالجوع، فإنه عاص لله -تعالى- مستحق لدخول النار وكذلك إذا تعرض بما غالبه العطب فَإِن اللَّه جعل النفوس وديعة عندنا فَقَال سبحانه وتعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم)[النساء:29] وَقَدْ تكلمنا فيما تقدم فِي وجوب الاحتراز من المؤذي، ولو لم يكن المسافر بغير زاد غير أنَّه خالف أمر اللَّه في قوله وتزودوا..

٣-الأكل بالسؤال: كانوا يقولون الأكل بالسؤال أجل من الأكل بالتقوى.

وذكر الشعراني عن بعض الصُّوفيَّة، وكانI يغلق باب زاويته طول النهار، لا يفتح لأحد إلّا للصلاة، وكان إذا دقّ أحد الباب، يقول للنقيب: اذهب فانظر من شقوق الباب فإن كان معه شيء من الفتوح للفقراء فافتح له، وإلّا فهي زيارات >فشارات<. فقيل له فى ذلك، فقال: أعزّ ما عند الفقير وقته، وأعزّ ما عند أبناء الدنيا ما لهم، فإن بذلوا لنا مالهم بذلنا لهم وقتنا.

وقال أبو طالب المكي: وقد كان الخواص لا يقيم في بلد أكثر من أربعين يومًا ويرى أنَّ ذلك علّة في توكله فيعمل في اختبار نفسه وكشف حاله.

وحدثنا عن بعض الشيوخ قال: لبثت في البرية أحد عشر يومًا لم أطعم شيئًا، وتطّلعت نفسي أن تعرّج على حشيش البرية، فرأيت الخضر مقبلًا نحوي فهربت منه، فلما ولّيت عنه هاربًا التفتّ إليه، فإذا هو قد رجع عني ويقول  أيضًا: >خرجت طائفة الأبدال إلى الكهوف تخلّيا من أبناء الدنيا< .

4-السكون وكتم الأنفاس:

فكتم الأنفاس مدة من الوقت مع عدم التحرك يعطي للصوفية قوة ويكون سببًا في الوصول إلى الكشف والمقامات العالية، يقول القشيري: >المبتدئ في الأحوال يجب أن يسكن حواسه، ولا تتحرك أنفاسه، ولا يحرك بدنه، ولا يحرك جزءًا منه ولا يردد طرفه ولا شيئا، ويكون مراعيًا لهمته، ولا يحرك ألبتة جزءًا من نفسه ولا من بدنه ولا من باطنه حتى تبدو الأحوال له بعد طول المراعاة. ثُمَّ يجب ألا ينظر إليها ولا إلى ما يبدو له ألبتة لئلا يحجب عنها، فلا يزال في المزيد منها -إن شاء الله تعالى- وهذا الطريق الذي هو طريق الله -تعالى- لا بُدَّ فيه من طول المجاهدة ومقاساة ما يحتمله الأسماع والقلوب من الشدائد لو حلّت بها.. وكنت أحيانا في بدو المجاهدة وأحوال الذكر لو استتر مني في السماء لكان الستر على أهون من أن أقوم للأكل، وأتحرك للوضوء والفرض؛ لِأَنَّهُ كان يعيب عني الذكر< .

وذكر الشعراني عن سيده البدوي أنه لازم الصمت، وما كان يكلم الناس إِلَّا بالإشارة.

 

إلى هنا ينتهي حديثنا حول أثر المذاهب الهندية في الصوفية ونكمل حديثنا في المرة القادمة حول أثر الفلسفة اليونانية في الصُّوفيَّة.

 

 

 

 

أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم

الكلمات الدلالية