الصوفية.. رؤية من الداخل (26) استكمال طرق الكشف عند الصُّوفيَّة
كتبه
/ إمام خليفه
الحمد لله وكفى , وسلام على عباده الذين اصطفى لا
سيما عبده المصطفى , وآله المستكملين الشرفا, وبعد..
تكلمنا في المقال السابق عن أهم طرق الكشف عند
الصوفية ،واليوم بإذن الله تعالى نكمل
الكلام حول هذه الطرق مثل
الإسراء
والمعراج، التعلق بالقبور، الهواتف، الاطلاع على اللوح المحفوظ، إدعاء لقيا الخضر،
الجن والشياطين.
ثالثا -الإسراء والمعراج:
قال عبد الوهاب الشعراني: قد صرَّح
المحققون: بأن للأولياء الإسراء الروحاني إلى السماء بمثابة المنام يراه الإنسان،
ولكل منهم مقام معلوم لا يتعداه وذلك حين يكشف له حجاب المعرفة، فكل مكان كشف له
فيه الحجاب حصل المقصود به، فمنهم: من يحصل له ذلك بين السماء والأرض، ومنهم: من
يحصل له ذلك في سماء الدنيا، ومنهم: من ترقى روحه إلى سدرة المنتهى إلى الكرسي إلى
العرش.
وقال أبو يزيد البسطامي: عرج
بروحي فخرقت الملكوت فما مررت بروح نبي إِلَّا سلمت عليه وأنكر أهل بسطام عَلَى
أبي يَزِيد البسطامي مَا كان يَقُول حتى إنه ذكر للحسين بْن عِيسَى أنه يَقُول لي
معراج كَمَا كان للنبي Hمعراج
فأخرجوه من بسطام.
وقال إبراهيم الدسوقي: أنا في
السماء شاهدت ربي، وعلى الكرسي خاطبته أنا بيدي أبواب النار غلقتها، وبيدي جنة
الفردوس فتحتها من زارني أسكنته جنة الفردوس.
وقال ابن عربي: وأما
الأولياء فلهم إسراءات روحانية برزخية يشاهدون فيها معاني متجسدة في صور محسوسة
للخيال يعطون العلم بما تتضمنه تلك الصور من المعاني ولهم الإسراء في الأرض وفي الهواء
غير أنهم ليست لهم قدم محسوسة في السماء، فلنذكر من إسراء أهل الله ما أشهدني الله
خاصة من ذلك فإن إسراءاتهم تختلف؛ لِأَنَّهُا معان متجسدة بخلاف الإسراء المحسوس
فمعارج الأولياء معارج أرواح، ورؤية قلوب وصور برزخيات، ومعان متجسدات، فمما شهدته
من ذلك وقد ذكرناه في كتابنا المسمى بـ(الإسراء) وترتيب الرحلة فإذا أراد الله -تعالى-
أن يسري بأرواح من شاء من ورثة رسله وأوليائه لأجل أن يريهم من آياته فهو إسراء
لزيادة علم وفتح عين فهم.
قال شيخ الإسلام: فقد ذكر
ابن عربي في كتابه الذي سماه(الإسراء) إلى المقام الأسري وجعل له إسراء كإسراء
النَّبِي Hوحاصل
إسرائه من جنس الإسراء الذي فسَّر به ابن سينا ومن اتبعه كالرازي والهمداني ونحوهم
إسراء النَّبِي Hوجعلوه
من نوع الكشف العلمي كما فعلوا مثل ذلك في تكليم موسى، وجعلوا ما خوطب به كله في
نفسه، فلهذا ادَّعى ابن عربي إسراء وهو كله في نفسه وخياله منه المتكلم، ومنه
المجيب، وباب الخيال باب لا يحيط به إِلَّا الله، وابن عربي يدَّعي أن الخيال هو
عالم الحقيقة ويعظمه تعظيمًا بليغًا فجعل في خياله يتكلم على المشايخ وتوحيدهم
بكلام يقدح في توحيدهم، ويدَّعي أنه علمهم التوحيد في ذلك الإسراء، وهذا كله من
جنس قرآن مسيلمة بل شر منه، وهو كلام مخلوق اختلقه في نفسه .
فجزى الله خيرًا شيخ الإسلام خير
الجزاء، إذ كشف لنا عن حقيقة معتقد ابن عربي في إسراء النَّبِي H
ومعراجه، إذ يساوي بين معراج النَّبِي Hومعراج
الصُّوفيَّة؛ لأنَّ كلا منهما عبارة عن كشف علمي بلا قطع مسافات محسوسة في السماء.
رابعا- التعلق بالقبور:
فهم
يظنون أن السفر إلى قبورهم من حقوقهم التي تجب على الخلق، وأنها من الإيمان بهم، أو
يظنون أن زيارة قبورهم من باب التعظيم لهم، وتعظيم أقدارهم وجاههم عند الله، وأن
الزائر إذا دعاهم وتضرع لهم وسألهم حصل مطلوبه؛ إما بشفاعتهم له، وإما لمجرد عظم
قدرهم عند الله، يعطى سؤله إذا دعاهم، وإما لكونه يعتقد أنه يفيض على الداعي من
جهتهم ما يطلب من غير علم منهم ولا قصد، كشعاع الشمس الذي يظهر في الماء، وبواسطة
الماء يظهر في الحائط، وإن كانت الشمس لا تدري بذلك. وهذا قول طائفة من المتفلسفة
المنتسبين إلى الملل. وقد ذكره صاحب > الكتب المضنون بها على غير أهلها ومعلوم
أن زيارة القبور بهذا القصد، وعلى هذا الوجه ليست من شريعة الإسلام.
إنَّ تقديس القبور والأضرحة مفهوم لم يعرفه الإسلام ولو في
إشارة يسيرة، بل جاءت نصوص الكتاب والسنة الثابتة بالنهي الصريح عن كل ذريعة تفضي
إلى ذلك المفهوم الذي يمثل خطوة أولى على طريق الانحراف نحو الشرك؛ فمن الأقوال
القاطعة لرسول الله Hبما لا
يدع مجالًا لتوهم نسخ أو تخصيص أو تقييد ما جاء عنه: « لَا
تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا
عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ». وعنه Hقال: « اللَّهُمَّ
لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعبد. لَعَنَ اللهُ
قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» هذا في قبره الشريف وفي كل قبر. وعن علي I أنه قال لأبي الهياج: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله H: « أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا
قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ». و«نَهَى رَسُولُ اللهِH أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ
يُبْنَى عَلَيْهِ». وفي زيادة صحيحة لأبي داود: « أَوْ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ» «ولعن الْمُتَّخِذِينَ عليها (أي القبور) الْمَسَاجِدَ،
وَالسُّرُجَ».
وعلى ذلك سار سلفنا الصالح من صحابة رسول
الله Hومن تبعهم بإحسان. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ولم يكن
على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام، لا في الحجاز،
ولا اليمن، ولا الشام، ولا العراق، ولا مصر، ولا خراسان، ولا المغرب، ولم يكن قد
أحدث مشهد، لا على قبر نبي، ولا صاحب، ولا أحد من أهل البيت، ولا صالح أصلًا، بل
عامة هذه المشاهد محدَثة بعد ذلك، وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني
العباس، وتفرقت الأمة، وكثر فيهم الزنادقة الملبّسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة
أهل البدع، وذلك من دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة؛ فإنه إذ ذاك ظهرت
القرامطة العبيدية القدّاحية في أرض المغرب، ثُمَّ جاؤوا بعد ذلك إلى أرض مصر.
خامسا- الهواتف:
ولقد ادَّعى
كثير من المتصوفة بأن الهداية تأتي إليهم عن طريق الهواتف والدليل على ذلك:
ما
ذكره إبراهيم بن أدهم بأن أباه كان من ملوك خراسان وأنه خرج
يومًا للصيد وأثار ثعلبًا أو أرنبًا، ثُمَّ يقول: إنه هتف به هاتف وسمع صوته ولم يره
وقال له: يا إبراهيم ألهذا خلقت أم بهذا أمرت ثُمَّ يذكر بأن الهتاف عاوده فقال: ما لهذا خلقت
ولا بهذا أمرت ، ثُمَّ قال: إنه أخذ جبة راعي أبيه وانطلق هائما في الصحاري والغابات
والأودية والجبال طلبًا للهداية والتقى بسليمان S وعلمه اسم
الله الأعظم ثُمَّ جاءه الخضر وقال له: إن الذي علَّمك اسم الله الأعظم هو أخي داود.
قال
الكلاباذي: باب فِي لطائف الله للْقَوْم وتنبيهه إيَّاهُم بالهاتف
ثُمَّ حكايات عن القوم مثال ذلك.، قال أبو سعيد
الخراز: بينا أنا عشية عرفة قطعني قرب الله D عن سؤال الله،
ثم نازعتني نفسي بأن أسأل الله -تعالى- فسمعت هاتفا يقول: أبعد وجود الله تسأل الله
غير الله.
وقال أبو حمزة الخراساني: حججت سنة من السنين
فكنت أمشي فوقعت في بئر فنازعتني نفسي بأن أستغيث فقلت لا والله لا أستغيث فما استتممت
هذا الخاظر حتى مرَّ برأس بالبئر رجلان فقال أحدهما للآخر: تعال حتى نطم رأس هذا البئر
من الطريق فأتوا بقصب وبارية وهممت أن أصيح، ثم قلت: يا من هو أقرب إلى منهما وسكت
حتى طموا ومضوا، فإذا أنا بشيء قد دلى برجليه في البئر وهو يقول تعلق بي فتعلقت به،
فإذا هو سبع وإذا هاتف يهتف بي ويقول لي يا أبا حمزة هذا حسن نجيناك من التلف في البئر
بالسبع.
أنواع الهاتف عند الصُّوفيَّة: فهو
إما أن يكون ملكًا، أو وليًّا، أو جنًّا صالحًا، أو الخضر، أو الله D
أو إبليس -لعنه الله-.
قال شيخ الإسلام: والقائلون بالشاهد والمنتسبون إلى
السلوك يقول أحدهم: إنه يخاطب في باطنه على لسان الشاهد فمنهم من يصلي بالليل وذاك
بإزائه ليشاهده في الضوء ومنهم من يشاهده في حال السماع في غيره ويظنون أنهم
يخاطبون ويجدون المزيد في قلوبهم بذلك؛ وذلك لأنهم يتمثلونه في أنفسهم، وربما كان
الشيطان يتمثل في صورته فيجدون في نفوسهم خطابًا من تلك الصورة فيقولون خوطبنا من
جهته. وهذا وإن كان موجودًا في المخاطب فمن المخاطب له؟ فالفرقان هنا. فإنما ذلك
المخاطب من وسواس الشيطان والنفس. وقد يخاطبون بأشياء حسنة رشوة منه لهم، ولا
يخاطبون بما يعرفون أنه باطل؛ لئلا ينفرون منه بل الشيطان يخاطب أحدهم بما يرى أنه
حق.
وقال أيضًا: يزعمون أنهم يخاطبون بأعظم مما خوطب به
موسى بن عمران. كما يقول ذلك من يقوله من أهل الوحدة والاتحاد القائلين بأن الوجود
واحد. كصاحب الفصوص وأمثاله. فإن هؤلاء يدعون أنهم أعلى من الأنبياء، وأن الخطاب
الذي يحصل لهم من الله أعلى مما يحصل لإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد Q، ومعلوم أن هذا الكفر أعظم من كفر اليهود
والنصارى الذين يفضلون الأنبياء على غيرهم لكن يؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض.
والنوع الثاني من يقول: إن الله يكلمه مثل كلام موسى بن عمران، كما يقول ذلك من
يقوله من المتفلسفة والمتصوفة الذين يقولون: إن تكليم موسى فيض فاض على قلبه من العقل الفعال،
ويقولون: إن النبوة مكتسبة. والنوع الثالث: الذين يقولون: إن موسى أفضل لكن صاحب الرياضة
قد يسمع الخطاب الذي سمعه موسى.
سادسا - الاطلاع على اللوح المحفوظ:
يقول الغزالي:
وكذلك قد تهب رياح الألطاف وتنكشف الحجب عن أعين القلوب فينجلي فيها بعض ما هو مسطور في اللوح المحفوظ ويكون ذلك تارة
عند المنام فيعلم به ما يكون في المستقبل وتمام ارتفاع الحجاب بالموت فبه ينكشف
الغطاء، وينكشف أيضًا في اليقظة حتى يرتفع
الحجاب بلطف خفي من الله -تعالى- فيلمع في القلوب من وراء ستر الغيب شيء من غرائب
العلم.
وكما يوجد في كلام ابن عربي، وابن سبعين، والشاذلي وغيرهم يقولون: إن
العارف قد يطلع على اللوح المحفوظ، وأنه يعلم أسماء مريديه من اللوح المحفوظ، أو
أنه يعلم كل ولي كان، ويكون من اللوح المحفوظ، ونحو هذه الدعاوى التي مضمونها أنهم
يعلمون ما في اللوح المحفوظ، وهذا باطل مخالف لدين المسلمين وغيرهم من أتباع الرسل.
وهذا الاعتقاد مبنيٌّ على أصول الفلاسفة المخالفة لدين المسلمين فيتلقَّون ذلك
بالقبول ولا يعرفون حقيقتَه ولا ما فيه من الباطل المخالف لدين الإسلام، فإنَّ
اللوح المحفوظ عند المتفلسفة كابن سينا وأتباعه هو النَّفْس الفَلَكِيَّة، وعندهم
أن نفوس البشر تتصل بالنفس الفَلَكية أو بالعقل الفَعَّال في المنام أو في اليقظة
لبعض الناس، وهم يدَّعون أن ما يحصل للناس من المكاشفة يقظةً ومنامًا هو بسبب اتصالها
بالنفس الفلكية والنفس الفلكية عندهم هي سبب حدوث الحوادث في العالم فإذا اتصلت
بها نفس البشر انتقش فيها ما كان في النفس الفلكية.