الصوفية.. رؤية من الداخل (23) الكشف عند الصوفية
كتبه / إمام خليفه
الحمد
لله وكفى , وسلام على عباده الذين اصطفى لا سيما عبده المصطفى , وآله المستكملين الشرفا, وبعد..
تكلمنا في المقال السابق عن الذوق عند
الصوفية ،واليوم بإذن الله تعالى نتكلم عن
: الكشف عند الصوفية وهو المصدرالثالث من مصادر التلقي عندهم
أولا:
تعريف الكشف لغة واصطلاحًا
الكشف لغة: رفع شيء عما يواريه ويغطيه.
واصطلاحًا:
هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية، والأمور الحقيقية وجودًا
وشهودًا. يقول شيخ
الإسلام موضحًا معنى الكشف: فما كان من الخوارق من باب العلم، فتارة بأن يسمع
العبد مالا يسمعه غيره، وتارة بأن يرى مالا يراه غيره يقظة ومنامًا. وتارة بأن
يعلم مالا يعلم غيره وحيًا وإلهامًا، أو إنزال علم ضروري، أو فراسة صادقة، ويسمى
كشفًا ومشاهدات، ومكاشفات ومخاطبات، فالسماع مخاطبات، والرؤية مشاهدات، والعلم
مكاشفة، ويسمى ذلك كله كشفًا ومكاشفة، أي: كشف له عنه
تعريف الكشف
عند الصوفية: هوالاطلاع على ما يغيب عن علمهم أو ما يحتاجون إليه من الأمور
الدينية، أو حتى الدنيوية عيانًا، أو سماعًا من قبل النَّبِيH، أو الخضر،
أو الهواتف، أو الملائكة، ونحو ذلك.
يقول أبو نصر السراج: الكشف هو بيان ما
يستتر على الفهم فيكشف عنه للعبد كأنه رأي العين.
ثانيا: منزلة الكشف عند
الصُّوفيَّة:
1-قد نصبوا الكشف حاكمًا على النقل:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض
رده على من قدَّم العقل على النقل: وهذا الذي ذكره في العقل من أنهم نصبوا العقل
على النقل، ذكره طائفة أخرى في الكشف، كما ذكره أبو حامد في كتابه الإحياء، أن الإنسان
يعرف الحق بنور إلهي يقذف في قلبه، ثُمَّ يعرض الوارد في السمع عليه، فما وافق ما
شاهدوه بنور اليقين قرروه، وما خالف أولوه فادعوا أنهم يعلمون -إما بالكشف وإما
بالعقل - الحقائق التي أخبر بها الرسول أكمل من علمه بها، بل ادَّعى بعضهم أنَّ
الأنبياء والرسل يستفيدون معرفة تلك الحقائق من مشكاة أحدهم، كما ادَّعاه صاحب
الفصوص أنَّ الأنبياء والرسل يستفيدون العلم بالله من مشكاة المسمى عنده بخاتم
الأولياء، وادعى أنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الموحي به إلى الرسول.
ويقول أحمد
عجيبة: توحيد الخاصة، وهو أنْ يَرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده، ويشاهد ذلك
بطريق الكشف لا بطريق الاستدلال.
ويقول الشيخ عبد الكريم الجيلي: الكشف الإلهي
الذي هو فوق العلم والعيان
ولا يكون ذلك إِلَّا بعد السحق والمحق الذاتي.
ويقول أبو حامد في بيان الكشف الذي
يحصل لبعض الخواص: إن القلب
مثل المرآة، واللوح المحفوظ مثل المرآة
أيضًا؛ لأنَّ فيه صورة كل موجود، وإذا قابلت المرآة بمرآة أخرى حلت صور ما
في إحداهما في الأخرى، وكذلك تظهر صور ما في اللوح المحفوظ إلى القلب إذا كان فارغًا
من شهوات الدنيا، فإن كان مشغولًا بها كان عالم الملكوت محجوبًا عنه، وإن
كان في حال النوم فارغًا من علائق الحواس طالع جواهر عالم الملكوت؛ فظهر فيه بعض
الصور التي في اللوح المحفوظ. وإذا أغلق باب الحواس كان بعده الخيال؛ لذلك يكون
الذي يبصره تحت ستر القشر، وليس كالحق الصريح مكشوفًا، فإذا
مات - أي القلب - بموت صاحبه لم يبق خيال ولا حواس. وفي ذلك الوقت يبصر بغير وهم
وغير خيال، ويقال له: { لَّقَدْ
كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ
الْيَوْمَ حَدِيدٌ}[ق: 22] ، وهذا
الكشف هو الحاكم على السمع، فما وافق الكشف أخذوه، وما خالف الكشف أولوه، قال
الغزالي: وحَّد الاقتصاد بين هذا الانحلال كله وبين جمود الحنابلة دقيق غامض لا
يطلع عليه إِلَّا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي لا بالسماع، ثُمَّ إذا
انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه نظروا إلى السمع والألفاظ الواردة فما
وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه وما خالف أوَّلوه، فأما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع المجرد فلا
يستقر له فيها قدم ولا يتعين له موقف.
2- الكشف يرفع صاحبه فوق
منزلة العلماء:
يقول أحمد عجيبة في تفسيره: ثُمَّ إنَّ
العلماء بأحكام الله إذا لم يحصل لهم الكشف عن ذات الله يكونون حجة على عباد الله.
والعلماء بالله الذين حصل لهم الكشف عن ذات الله حتى حصل لهم الشهود والعيان
يكونون حجة على العلماء بأحكام الله. فكما أنَّ الأمة المحمدية تشهد على الناس،
والرسول يشهد عليهم ويزكيهم، فكذلك العلماء يشهدون على الناس، والأولياء يشهدون
على العلماء، فيزكون من يستحق التزكية، ويردون مَن لا يستحقها؛ لأنَّ العارفين
بالله عالمون بمقامات العلماء أهل الظاهر، لا يخفى عليهم شيء من أحوالهم
ومقاماتهم، بخلاف العلماء، لا يعرفون مقامات الأولياء، ولا يشمون لها رائحة.
ثالثا: أنواع الكشف عند
الصُّوفيَّة:
الكشف
عند الصوفية نوعان: صوري، ومعنوي:
الكشف الصوري: هو ما يحصل في عالم المثال من طريق الحواس. ويكون
إما بطريق المشاهدة:
كرؤية المكاشف صور الأرواح المتجسدة والأنوار المشخصة في هياكل معتدلة، كما تجسَّد
جبريلS بصورة
دحية الكلبي، أو بطريق السماع
كسماع النَّبِي الوحي النازل عليه كلامًا منظومًا، أو صوتًا مثل صلصلة
الجرس أو دوي النحل، إذا تجسدت المعاني بصور الألفاظ، والعبارات الجسدانية.
الكشف المعنوي: هو كشف صور الحقائق
المجردة، والمفارقات العلوية، بحكم تجليات اسم العليم.
قال شيخ الإسلام مبينًا حقيقة الكشف وأصنافه : ما يحصل من المكاشفة والتصرف ثلاثة أصناف: ملكي، ونفسي،
وشيطاني، فإن الملك له قوة والنفس لها قوة والشيطان له قوة وقلب المؤمن له قوة.
فما كان من الملك ومن قلب المؤمن فهو حق، وما كان من الشيطان ووسوسة النفس فهو
باطل، وقد اشتبه هذا بهذا على طوائف كثيرة، فلم يفرقوا بين أولياء الله وأعداء
الله، بل صاروا يظنون في من هو من جنس المشركين والكفار أنه من أولياء الله
المتقين.... ولهذا في هؤلاء من يرى جواز قتال الأنبياء، ومنهم من يرى أنه أفضل من
الأنبياء إلى أنواع أُخر؛ وذلك لأنه حصل لهم من
الأنواع الشيطانية والنفسانية ما ظنوا أنها من كرامات الأولياء فظنوا أنهم منهم
فكان الأمر بالعكس.
وهذا الكشف الذي يحصل للمرء يكون من خلال ثلاثة طرق، فمنه النفساني،
وهو مشترك بين المسلم والكافر، ومنه الرحماني، وهو الذي يكون عن طريق الوحي
والشرع، ومنه الشيطاني، وهو ما يحصل عن طريق الجن. فالنفس
يحصل لها نوع من الكشف، عن طريق الكشف النفساني وهو ما يقع للنفس يقظةً أومنامًا
بسبب قلة علاقتها مع البدن إما برياضة أو بغيرها. فالكشف الجزئي مشترك بين
المؤمنين والكفار والأبرار والفجار، كالكشف عما في دار إنسان أو عما في يده، أو
تحت ثيابه، أو ما حملت به امرأته بعد انعقاده ذكرًا أو أنثى، وما غاب عن العيان من
أحوال البعد الشاسع ونحو ذلك، فإن ذلك يكون من الشيطان تارة، ومن النفس تارة،
ولذلك يقع من الكفار كالنصارى وعابدي النيران والصلبان أو عن طريق الكشف الشيطاني
وهو ما يكون عن طريق الشياطين، فقد ثبت
أيضًا بالدلائل العقليَّة مع الشرعيَّة وجود الجن، وأنها تخبر الناس بأخبار
غائبة عنهم، كما للكهان المصروعين وغيرهم، فقد كاشف ابن صياد النَّبيَّ Hبما
أضمره له وخبَّأه فقال له رسول الله H: >إِنَّمَا
هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ، فأخبر أن ذلك الكشف من جنس كشف الكهان، وأن ذلك
قدره، وكذلك مسيلمة الكذاب مع فرط كفره كان يكاشف أصحابه بما فعله أحدهم في بيته
وما قاله لأهله يخبره به شيطانه ليغوي الناس، وكذلك الأسود العنسي، والحارث
المتنبي الدمشقي الذي خرج في دولة عبد الملك بن مروان وأمثال هؤلاء ممن لا يحصيهم
إِلَّا الله، … أو عن طريق الكشف الرحماني، وهو ما تخبر به الملائكة فهذا أشرف الأقسام
كما دلَّت عليه الدلائل الكثيرة السمعية والعقلية، فالإخبار بالمغيبات يكون عن
أسباب نفسانية، ويكون عن أسباب خبيثة شيطانية وغير شيطانية ويكون عن أسباب ملكية.
رابعا: أنواع الكشف عموما
1- الكشف البدعي: وهو ما يكون من الجن
والشيطان وخالف الكتاب والسنة، وصار أحدهم يقول أخذوا علمهم ميتًا عن ميت، وأخذنا
علمنا عن الحي الذي لا يموت، وهؤلاء الذين لهم مكاشفات ومخاطبات يرون ويسمعون ما
له وجود في الخارج، ومالا يكون موجودا إِلَّا في أنفسهم كحال النائم، ولكن قد يرونه
في الخارج أشخاصا يرونها غيابا، ويخاطبهم أولئك الأشخاص ويحملونهم ويذهبون بهم إلى
عرفات، ومن الناس من يعلم أن هذا من الشيطان، وأنه من السحر، ومنهم من يعلم أن ذلك
من الجن، وكثير من أهل النظر يزعمون أنه بمجرد النظر يحصل العلم بلا عبادة ولا دين
ولا تزكية للنفس.
2-الكشف الشرعي الحق:
أولا: لقد ورد لفظ (الكشف) في القرآن، ومنه
قوله - تعالى -: { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا
فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}[ق:22]، وقال - سبحانه -: { وَلَئِن
شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ
عَلَيْنَا وَكِيلًا
}[الإسراء:56]، وورد في السنة الفعل(كشف)، ومن ذلك ما رواه أنس قال: « بَيْنَمَا
الْمُسْلِمُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلَّا رَسُولُ اللهِ H كَشَفَ سِتْرَ
حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ صُفُوفٌ، فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ»،
ثانيا: ومن هذا الكشف الشرعي قوله H: « الصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ
ضِيَاءٌ» ومن معه نور وبرهان وضياء كيف لا يعرف الأشياء من فحوى كلام أصحابها،
وفي الحديث « وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى
أُحِبَّهُ.. ».وعن ابن مسعود قال: « إِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ
الْكَذِبَ رِيبَةٌ»
وفي الحديث: «إِنَّ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ Dلَيْسَ بِأَعْوَرَ، بَيْنَ عَيْنَيْهِ ( ك ف ر)، يَقْرَؤُهُ
كُلُّ مُؤْمِنٍ قَارِئٌ وَغَيْرُ قَارِئٍ»، وقال عمر: « اقْرَبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ
مَا يَقُولُونَ؛ فَإِنَّهُمْ تَتَجَلَّى لَهُمْ أُمُورٌ صَادِقَةٌ».
قال أبوسليمان الداراني: إن القلوب اذا اجتمعت على التقوى جالت
في الملكوت ورجعت على أصحابها بطرف الفوائد.
ثالثا تعريف الكشف الصحيح: هو أن يعرف الحق الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه معاينة
لقلبه، ويجرد إرادة القلب له، فيدور معه وجودا وعدما، هذا هو التحقيق الصحيح، وما خالفه
فغرور قبيح، فينكشف له من غوامض علوم الدين ما لا ينكشف لغيره، ويكون مع علمه
عاملا، فهذا من كشف الأولياء، وهو كشف ظاهر المنفعة.
ومن
الكشف ما لا فائدة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، كالاطلاع على سيئات العباد
وركوب السباع لغير حاجة والاجتماع بالجن لغير فائدة والمشي على الماء مع إمكان
العبور على الجسر؛ فهذا لا منفعة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة وهو بمنزلة العبث
واللعب.
وأما دعوى وقوع نوع من العلم بغير سبب
من الاستدلال: فليس بصحيح، فإن الله سبحانه ربط
التعريفات بأسبابها، كما ربط الكائنات بأسبابها، ولا يحصل لبشر علم إلا بدليل يدله
عليه، وقد أيد الله سبحانه رسله بأنواع الأدلة والبراهين التي دلتهم على أن ما
جاءهم هو من عند الله، ودلت أممهم على ذلك، وكان معهم أعظم الأدلة والبراهين على
أن ما جاءهم هو من عند الله، وكانت براهينهم أدلة وشواهد لهم وللأمم، فالأدلة
والشواهد التي كانت لهم، ومعهم أعظم الشواهد والأدلة، والله -تعالى- شهد بتصديقهم
بما أقام عليه من الشواهد، فكل علم لا يستند إلى دليل فدعوى لا دليل عليها، وحكم
لا برهان عند قائله، وما كان كذلك لم يكن علما، فضلا عن أن يكون لدنيا.
فالكشف إن لم يقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا
والآخرة أما في الآخرة فلعدم الدين الذي هو أداء الواجبات
وترك المحرمات وأما في الدنيا فإن الخوارق هي من الأمور الخطرة التي لا تنالها
النفوس إلا بمخاطرات في القلب والجسم والأهل والمال فإنه إن سلك طريق الجوع
والرياضة المفرطة خاطر بقلبه ومزاجه ودينه وربما زال عقله ومرض جسمه وذهب دينه. وإن
سلك طريق الوله والاختلاط بترك الشهوات ليتصل بالأرواح الجنية وتغيب النفوس عن
أجسامها - كما يفعله مولهو الأحمدية - فقد أزال عقله وأذهب ماله ومعيشته وأشقى
نفسه شقاء لا مزيد عليه وعرض نفسه لعذاب الله في الآخرة لما تركه من الواجبات وما
فعله من المحرمات وكذلك إن قصد تسخير الجن بالأسماء والكلمات من الأقسام والعزائم
فقد عرض نفسه لعقوبتهم.
قال ابن قيم الجوزية: الكشف: هو الكشف عن
ثلاثة أشياء، هن منتهى كشف الصادقين أرباب البصائر:
أحدهما: الكشف عن منازل السير.
والثاني: الكشف عن عيوب النفس، وآفات الأعمال
ومفسداتها.
والثالث: الكشف عن معاني الأسماء والصفات،
وحقائق التوحيد والمعرفة.
خامسا: منزلة الكشف عند أهل السنة:
ما يُعلم بالكشف قد يكون صحيحًا وقد
يكون خاطئًا، فأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة، ويخطئون أخرى، كأهل النظر
والاستدلال في موارد الاجتهاد؛ ولهذا وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب الله،
وسنة رسوله H، وأن يزينوا
كشفهم، ومشاهدتهم، وآراءهم، ومعقولاتهم، بكتاب الله، وسنة رسوله، ولا يكتفوا بمجرد
ذلك، فإنَّ سيد المحدثين والمخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو عمر بن الخطاب، وقد
كانت تقع له وقائع، فيردها عليه رسول الله، أو صديقه أبو
بكر، ولهذا وجب على جميع الخلق اتباع الرسول H.
قال ابن قيم الجوزية: والكشف الرحماني
هو مثل كشف أبي بكر لما قال لعائشة L إن
امرأته حامل بأنثى، وكشف عمر I لما قال يا سارية
الجبل – أي الزم الجبل - وأضعاف هذا من كشف أولياء الرحمن. وما حدث مع عمر بن
الخطاب I صحيح
ثابت عنه، فقد قال نافع: إن عمر بعث سريَّة فاستعمل عليهم رجلًا يقال لهسارية،
فبينما عمر يخطب يوم الجمعة، فقال: يا ساريةُ الجبلَ، يا ساريةُ الجبلَ فوجدوا
سارية قد أغار إلى الجبل في تلك الساعة يوم الجمعة وبينهما مسيرة شهر.
وهذا كرامة لعمر I وذلك إما
بإلهامه وتبليغ صوته – وهو ما يراه ابن قيم الجوزية – أو بالكشف النفساني وتبليغ صوته
–، وفي كلا الحالين هو كرامة له ولا شك.
قال الشيخ الألباني – عن حادثة عمر بن الخطاب -: ومما
لا شك فيه أن النداء المذكور إنَّما كان إلهامًا من الله -تعالى- لعُمر، وليس ذلك
بغريب عنه فإنه محدَّث كما ثبت عن النَّبِيH، ولكن
ليس فيه أن عمر كُشف له حال الجيش، وأنه رآهم رأي العين، فاستدلال بعض المتصوفة
بذلك على ما يزعمونه من الكشف للأولياء وعلى إمكان اطلاعهم على ما في القلوب: من
أبطل الباطل، كيف لا وذلك من صفات رب العالمين المنفرد بعلم الغيب والاطلاع على ما
في الصدور. وليت شعري كيف يزعم هؤلاء ذلك الزعم الباطل والله D يقول في
كتابه{ عَالِمُ
الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ . إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن
رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26-27]. فهل يعتقدون أن أولئك الأولياء رسل
الله حتى يصحَّ أن يقال إنهم يطلعون على الغيب باطلاع الله إياهم؟! سبحانك هذا
بهتان عظيم، فالقصة صحيحة ثابتة، وهي كرامة أكرم الله بها عمر، حيث أنقذ به جيش
المسلمين من الأسر أو الفتك به، ولكن ليس فيها ما زعمه المتصوفة من الاطلاع على
الغيب، وإنَّما هو من باب الإلهام (في عرف الشرع) أو (التخاطر) في عرف العصر
الحاضر الذي ليس معصومًا، فقد يصيب كما في هذه الحادثة، وقد يخطئ كما هو الغالب
على البشر، ولذلك كان لا بُدَّ لكل وليٍّ من التقيد بالشرع في كل ما يصدر منه من
قول أو فعل خشية الوقوع في المخالفة، فيخرج بذلك عن الولاية التي وصفها الله -تعالى-
بوصف جامع شامل{ أَلَا
إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا
يَتَّقُونَ} [يونس: 62-63]، ولقد
أحسن من قال: إذا رأيت شخصًا قد يطير وفوق ماء البحر قد يسير، ولم يقف على حدود
الشرعِ فإنه مُستَدرج وبدعــي.إلى هنا ينتهي حديثنا عن
الكشف ونكمل الحديث في المرة القادمة إن شاء الله حول طرق الكشف عند الصوفية.