الصوفية.. رؤية من الداخل (22) الذوق عند الصوفية
كتبه/ إمام خليفة
الحمد لله وكفى , وسلام على عباده الذين اصطفى لا
سيما عبده المصطفى , وآله المستكملين الشرفا, وبعد..
تكلمنا
في المقال السابق عن الإلهام عند الصوفية
،واليوم بإذن الله تعالى نتكلم عن :
الذوق عند الصوفية وهو ثاني مصدر
من مصادر التلقي عندهم
الذوق
(تعريفه وأنواعه):
أولا: معناه
لغة: الذوق يكون بالفم وبغير الفم. والذوق يكون فيما يكره ويحمد ويقال: ما ذقت
ذواقا، أي ما تطعمت شيئًا، حقيقة من الذوق بالفم واللباس بما يلبس على اليدين. وهو
إدراك طعم الشيء بواسطة الرطوبة المنبثة بالعصب المفروش على عضل اللسان يقال ذقت
الطعام أذوقه ذوقا وذوقانا وذواقا ومذاقا إذا عرفته بتلك الواسطة.
واصطلاحًا:
هو إدراك المحبوب اللذة الظاهرة كالطعام يشتهيه الانسان ويحبه ثم يذوقه ويتناوله
فيجد حينئذ لذته وحلاوته وكذلك النكاح وأمثال ذلك
.
تعريف
الذوق عند الصوفية:
قال القشيري: ويعبرون عنه بما يجدونه
من ثمرات التجلي ونتائج الكشوفات، وأول ذلك الذوق، ثم الشرب، ثم الري فصفاء
معاملاتهم يوجب لهم ذوق المعاني ووفاء منازلاتهم يوجب لهم الشرب، ودوام مواصلاتهم
يقتضي لهم الري.
قال ابن عربي:
اعلم أن الذوق هو أول مبادي التجلي وهو حال يفجأ العبد في قلبه وهذا لا يكون إلا
إذا كان التجلي الإلهي في الصور، أو في الأسماء الإلهية، أو الكونية ليس غير ذلك،
ولمَّا كان الذوق مرتبطًا بالتجلي كان التجلي عندهم له مراتب،الأول: فهو إما أن يكون ذاتيًا بمعنى أن الذات الإلهية
غير موصوفة ولا منعوتة التجلي الثَّاني: أن هذه الذات المجردة من الأسماء والصفات
تصبح عالمة، وتتحقق بهذه الصفة كما تصبح قابلة بأن تظهر وتتجلى فيها الممكنات،والأعيان
التجلي الثَّالث معناه ظهور الله تعالى- في الأعيان والممكنات بالفعل، وهذه هي عقيدة أصحاب وحدة الوجود، وهي شهود كل شئ في كل شيء.وهذا
كله يجسد عقيدة الحلول والاتحاد الموجودة عند الصوفية
في معجم مصطلحات الصُّوفيَّة: الذوق
أول درجات شهود الحق بالحق وهو أول مبادئ التجليات الإلهية، وهو نور عرفاني يقذفه
الحق بتجلّيه في قلوب أوليائه، يفرّقون به بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك
من كتاب أو غيره، والذوق والشـرب في اصطلاح القوم أن الذوق إذا زاد وبلغ
أوسط مقام الشهود يسمّى شُربًا، فإذا بلغ النهاية يسمّى رِيًا، وذلك بحسب صفاء السـر عن الالتفات إلى الغير.
ثانيا: مراتب
الذوق:
أولًا- الذوق، وهو أول مراتب التجلي.
ثانيًا-
الشرب، وهو مقام بين الذوق والري.
ثالثًا-
الري، وهو يكون بعد الشرب.
ثالثا: احتجاج
الصُّوفيَّة بالذوق أمر معلوم، فإنَّهم يستدلون به على تصحيح كثير من الأحوال لما
قد يجدونه من آثار ولذة يرون فيها إصلاحًا لأديانهم.
قال
الغزالي: اللذة نوع إدراك والإدراك يستدعي مدركًا ويستدعي قوة مدركة فمن لم تكمل
قوة إدراكه لم يتصور منه التلذذ، فكيف يدر لذة الطعوم من فقد الذوق، وكيف يدرك لذة
الألحان من فقد السمع، ولذة المعقولات من فقد العقل، وكذلك ذوق السماع.
رابعا: الآثار المترتبة على قولهم بالذوق:
أولاً: قولهم بوحدة الوجود: وهذا من خلال القول بالتجلي. يقول الجيلي: فإن شهدت نفسك في
هذا التجلي، فإنَّما شهدت إلهك وربك، فلا
تدعيه بخلقيتك، فليس هذا المجال مما للمخلوق فيه نصيب ألبَتَّة، فهو لله وحده أول
المجالي الذاتية، فأنت بنفسك قد علمت أنك المراد بالذات والحق بالخلق، فاحكم على
الخلق بالانقطاع، واشهد للحق E بما يستحقه في ذاته من أسمائه وصفاته ممن شهد لله بما شهد
لنفسه:
عيني لنفسك نزهت في ذاتها |
|
وتقدّست في
اسمها وصفاتها |
فاشهد لها ما
تستحق ولا تقل |
|
نفسي استحقت حسنها بثباتها |
قال: ومن هذا
التجلي، تصرفات أهل الهمم. ومن هذا التجلي عالم الخيال وما يتصور فيه من غرائب
عجائب المخترعات. ومن هذا التجلي السحر العالي. ومن هذا التجلي المشي على الماء
والطيران في الهواء، وجعل القليل كثيرًا والكثير قليلًا، إلى غير ذلك من الخوارق.
ثانيًا: ترك الكتاب والسنة، فقد ذهب
الغزالي إلى أنه بإمكان الإنسان أن يدرك حقيقة النبوة وخاصيتها عن طريق الذوق
فيكون إيمانه بالنبوة لا عن تسامع وتخابر، بل بالإحساس بها والشعور الفعلي
بحقيقتها، وهذا الذوق لا ينال إِلَّا بسلوك طريق التَّصَوُّف..
خامسأ أنواع الذوق: قال شيخ الاسلام: ومعنى الذوق عند الصوفية أنهم يجدون في القول والعمل مصلحة
في قلوبهم وأديانهم ويذوقون طعم ثمرته.
فهذه
الأمور يجب أن يعرف أنها ليست كمالا مطلقا كالفناء لكن يحمد ما فيها من الأمور
المحمودة الإيمانية من ذوق أو وجد إيماني مشروع، أو محبة إيمانية، أوخشية إيمانية،
ولا يحمد منها ما زاد على المستحب وما شغل عن ما هو أحب منه ويذم منها ما تضمن ترك
واجب من علم أو عمل أوفعل محرم لكن إذا كان المذموم بغير تفريط من العبد ولا عن
عدوان منه لم يذم منه. كأن يغلب على أمر معين لا يستطيع دفعه عنه فلا يذم مثل ما
ذكرنا من قبل من كان يغشى عليه عند سماع القرآن
ولذا كان هناك نوعان من الذوق
1- ذوق بدعي: وهو طريق الحقيقة عندهم وهو السلوك الذي لا يتقيد
صاحبه بأمر ولا شرع، ولكن بما يراه ويذوقه ويجده ونحو ذلك. واللذة والبهجة والسرور الذي يحصل للنفس بما تعلمه من المعارف
ليس هو نفس العلم بل هو أمر يحصل بشرط العلم فالعلم شرط فيه ليس موجبًا له فضلًا
عن أن يكون هو إياه وهؤلاء غلطوا من وجهين من ظنهم أن مجرد العلم موجب لذلك.
والثاني أنهم جعلوا اللذة نفس الإدراك والعلم، فقالوا: اللذة هي إدراك الملائم من
جهة كونه ملائمًا، وهذا غلط فإن اللذة ليست هي نفس الإدراك ولكن هي حاصلة عقب
الإدراك فإن الإنسان يشتهي الطعام مثلا فيذوقه فيلتذ بذلك فاللذة ليست هي الذوق،
ولكن هي حاصلة بالذوق.
وأصل ضلال من
ضل هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند الله وتقديم اتباع الهوى على اتباع أمر
الله فإن الذوق والوجد، ونحو ذلك هو بحسب ما يحبه العبد ويهواه فكل محب له ذوق
ووجد بحسب محبته وهواه.
قيل
لسفيان بن عيينة: ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم؟ فقال: أنسيت قوله
-تعالى-: {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} [البقرة: 93].
2-الذوق
الشـرعي: فَأهل الْإِيمَان لَهُم من الذَّوْق وَالْوَجْدُ مثل مَا بيّنه النَّبِي Hبقوله
فِي الحَدِيث الصَّحِيح: « ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ ». فوجود المؤمن حلاوة الإيمان في قلبه وذوق طعم الإيمان
أمر يعرفه الجميع وأهله يتفاوتون فيه بحيث يكونون حنفاء لله مخلصين له الدين، قال
شيخ الإسلام في معرض الكلام عن طرق تحصيل العلم: العلم بالكائنات وكشفها له طرق
متعددة: حسية وعقلية وكشفية وسمعية ضرورية ونظرية وغير ذلك وينقسم إلى قطعي وظني
وغير ذلك. فالطريق العقلية والنقلية والكشفية والخبرية والنظرية طريقة أهل الحديث
وأهل الكلام وأهل التصوف قد تجاذبها الناس نفيا وإثباتا فمن الناس من ينكر منها ما
لا يعرفه ومن الناس من يغلو فيما يعرفه فيرفعه فوق قدره وينفي ما سواه، وكثير من المتصوفة
والفقراء يبني على منامات وأذواق وخيالات يعتقدها كشفا وهي خيالات غير مطابقة
وأوهام غير صادقة {إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا }[النجم: 28].
أقوال العلماء في أن الذوق لا
بُدَّ من أن يكون مقيدًا بالكتاب
والسنة:
روي عن أحمد بن أبي الحواري أنه قال من
عمل بلا أتباع سنة فباطل عمله. وعن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: كل فعل يفعله
العبد بغير اقتداء: طاعة كان أو معصية، فهو عيش النفس يعني: باتباع الهوى، وكل فعل
يفعله العبد بالاقتداء؛ فهو عتاب على النفس يعني لأنه لا هوى له فيه. واتباع الهوى
هو المذموم، ومقصود القوم تركه ألبتة.
وقال: أصولنا سبعة أشياء: التمسك بكتاب الله،
والاقتداء بسنة رسول الله H، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء
الحقوق<.
وعن الجنيد بن محمد
أنه قال: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول H وقال: مَذْهَبُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَعَن أبي حَفْص النَّيْسَابُورِي أَنه
قَالَ: من لم يزن أَفعاله وأحواله كل وَقت بِالْكتاب وَالسّنة، وَلم يتهم خواطره
فَلَا تعده فِي ديوَان الرِّجَال.
قال شيخ الإسلام: كل
حب ووجد وذوق لا تشهد له هذه الشريعة فهو من أهواء الذين لا يعلمون و من الأصول
المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان: إنه لا يُقبل من أحد قط أن يعارض
القرآن لا برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجده؛ فإنَّهم ثبت عنهم
بالبراهين القطعيات، والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدي ودين الحق، وأن القرآن
يهدي للتي هي أقوم، فيه نبأ من قبلهم، وخبر ما بعدهم، وحكم ما بينهم، هو الفصل ليس
بالهزل، ولهذا لا يُوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس،
ولا بذوق ووجد ومكاشفة، ولا قال قط قد تعارض في هذا العقل والنقل.
إلى هنا ينتهي حديثنا حو الذوق ونكمل
حديثنا في المرة القادمة حول الأصل الثالث من مصادر التلقي عند الصوفية وهو الكشف