الصوفية.. رؤية من الداخل (16) التَّصَوُّف في القرن الثامن وما بعده، ودور شيخ الاسلام في مقاومة التصوف الفلسفي

الصوفية.. رؤية من الداخل (16) التَّصَوُّف في القرن الثامن  وما بعده، ودور شيخ الاسلام في مقاومة التصوف الفلسفي
الاثنين ١٨ سبتمبر ٢٠٢٣ - ١٤:١٢ م
172

 الصوفية.. رؤية من الداخل (16) التَّصَوُّف في القرن الثامن  وما بعده، ودور شيخ الاسلام في مقاومة التصوف الفلسفي

كتبه/ إمام خليفة  

الحمد لله وكفى , وسلام على عباده الذين اصطفى لا سيما عبده المصطفى , وآله المستكملين الشرفا, وبعد..

تكلمنا في المقال السابق عن التَّصَوُّف في القرن القرن السادس والسابع سماته، وأهم رموزه.

واليوم بإذن الله تعالى نتكلم عن: التَّصَوُّف في القرن الثامن  وما بعده ، ودور شيخ الاسلام في مقاومة التصوف الفلسفي.

التَّصَوُّف في القرن الثَّامن وما بعده.

انتشر التَّصَوُّف في العالم الاسلامي بتياراته المتعددة قربًا وبعدًا من الكتاب والسنة، ولكن يلاحظ في هذه الحقبة الآتي:

- أن الطرق الصُّوفيَّة قد توقفت فكريًا، فلم تتخذ أشكالًا وأطوارًا جديدة، ولم تشهد مصنفاتهم أشكالًا جديدة، وإنَّمَا دارت حول شروح وتلخيصات لكتب المتقدمين.

- ظهور مدرسة شيخ الإسلام وتلامذته كان له الأثر في إحياء منهج السلف وبيان الخطر الصوفي الفلسفي على الأمة بعد أن تنبه لخطر قبول الأمة لمذاهب علماء الكلام وخطر انتشار المذهب الصوفي الفلسفي، وأنه يزيد من أسباب وهن الأمة وضعفها مما سلَّط أعداء الدين من الصليبين والتتار عليها وقد بيَّن ابن تيمية ضلال ابن عربي وغيره، وكشف فضائح الصُّوفيَّة وغيرها، وصار لابن تيمية مدرسة علمية تتبني المذهب السلفي وتدعوا إليه وصار له تلامذة نجباء كابن قيم الجوزية وابن كثير وغيرهم.

- اشتد الصراع بين المذهبين السلفي والصوفي، حيث يقول أحد الناقمين من المتصوفة على مدرسة ابن تيمية: ويصف الصوفية هذا القرن بقولهم: فإن المتأخرين (وخاصة مع بدايات القرن الثَّامن) كانوا قد واكبوا ظهور بعض المبتدعة العائدين بشبهات على بعض عقائد الإسلام التي اندثر أصحابها كالحشوية والمجسمة (يعنون بالحشوية والمجسمة من يثبتون الصفات دون تشبيه ولا تخييل ولا تكييف ولا تعطيل، وفي هذا اتهام واضح لمنهج الصحابة والقائلين بأنهم مجسمة وحشوية وأيضا اعترافهم بقوة التيار السلفي آنذاك المتمثل في مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية)، والتي كانت تروق لجماهير الرعاع من عوام المسلمين كالعادة؛ لأنَّ هذا المذهب قد صار جيوبًا وعثرات في طريق أهل السنة منذ طلوع ليل مذهبهم المنحرف شغلوا العلماء عن تعليم الناس وتصحيح عقائدهم إلى الدخول في متاهات ومهاترات لا طائل من ورائها.

قال سعيد فودة وهو من الصوفية المعاصرين: برز في أوائل القرن الثَّامن رجل يظنّ في نفسه الذّكاء البالغ والعلم التّام، اسمه ابن تيميّة، اشتغل في بداية أمره بالسّنة حتّى عطف عليه العلماء، لمّا أصاب عائلته مع باقي العائلات المشرّدة إثر مصائب التّتار، وما إن استطاع أن يقوم بنفسه حتّى أعلن مكنون نفسه من مذهب بطّال وعقائد التجسيم.

 لكن إدراك الفريقين أنه لا مجال للتلاقي بين المذهبين للمخالفة التامة في المنهج والغاية والوسيلة، مما ساعد هذا الصراع على تقوية التيار الصوفي السلوكي، وإضعاف التيار الصوفي الفلسفي؛ وذلك لأنَّ شوكة التَّصَوُّف والتحريف كانت قد تمكنت من الأمة تمكنًا عظيمًا.

  وإلى نهاية هذه المرحلة يمكننا القول إن لغة دينية تكاملت في الظهور هي (اللغة الصُّوفيَّة الإسلامية)، ولكن هذه اللغة واجهت خلال القرون المتتالية عدة مشكلات، خاصة بعد قيام المغرضين والمستشرقين بعدة حملات لتشويه مفردات هذه اللغة وتأويلها وصرفها عن مقاصدها الإسلامية الحقة، ولهذا ولأسباب أُخرى أخذت هذه اللغة بالاختفاء تدريجيًا هذا على حد زعم الصُّوفيَّة أنفسهم. فهم يعتبرون ردود مدرسة شيخ الاسلام ابن تيمية عليهم نوعا من الإغراض والمآمرة عليهم.

دور شيخ الإسلام ابن تيمية في التصدي للصوفية الفلسفية:

شهد القرن السَّابع الهجري - الذي عاش شيخ الإسلام ابن تيمية في نصفه الأخير- حدثان مُهمَّان، فعلى المستوى السياسي كان الحدث الأضخم هو ظهور الخطر التتري من المشرق؛ إذ تمكن التتار من السيطرة على أراضٍ واسعة من شرق بلاد الإسلام حتى وصلوا إلى إيران والعراق. وأما على المستوى الفكري فقد ظهرت مقالة الاتحادية؛ أي القول بأن وجود الباري هو عين وجود الكائنات، وهي مقالة أكفر من مقالات اليهود والنصارى، وكانت فتنة الاتحادية قد تطاير شررها، كما كان خطر التتار.

يقرن ابن تيمية بين هذين الحَدَثين من حيث الظهورُ فيقول:((وإنَّما حدثت هذه المقالات بحدوث دولة التتار، وإنَّما كان الكفر الحلول العام أو الاتحاد أو الحلول الخاص)) ، ويقول: وهؤلاء الذين تكلموا في هذا الأمر: لم يُعرف لهم خبرٌ من حين ظهرت دولة التتار، وإلا فكان الاتحاد القديم هو الاتَّحاد المعين،  وفي موضع آخر يجعل ابن تيمية هذا الاقتران سببيًّا؛ أي أن ظهور مقالة الاتحاد العامِّ كان من أسباب ظهور التتار، فيقول: وكثيرًا ما كنتُ أظنُّ أنَّ ظهورَ مثلِ هؤلاء أكبر أسباب ظهور التتار، واندراس شريعة الإسلام، وأنَّ هؤلاء مقدمة الدجال الأعور الكذّاب الذي يزعُم أنَّه هو الله.

ومن جهةٍ أخرى، يذكر ابن تيمية التقارب بين الاتحادية وبين التتار لما اجتاح التتار ديار الإسلام؛ سار الشيخ يحيى بن الزكي، الملقب بمحي الدين، سليل الأسرة الدمشقية المعروفة بالقضاء، أحد تلامذة ابن عربي الغلاة فيه ، إلى هولاكو فولَّاه قضاء الشام وغيرها، وخلع عليه خلعة سوداء مذهبة خَلِيفَتِيّة. والسبب في ذلك يرجع إلى النظرة الاتحادية في التعامل مع الأديان، فيقول ابن تيمية في كشف ذلك: >ويقولون – أي الاتحاديَّة - لمن يختص بهم من النصارى واليهود إذا عرفتم التحقيق لم يضركم بقاؤكم على ملتكم، بل يقولون مثل هذا للمشركين عباد الأوثان حتى إن رجلًا كبيرًا من القضاة كان من غلمان ابن عربي (يحيى بن الزكي)، لما قدِم ملك المشركين الترك هولاكو خان المشرك إلى الشام، وولاه القضاء، وأتى دمشق، أخذ يعظم ذلك الملك الذي فعل في الإسلام وأهله ببغداد وحلب وغيرهما من البلاد ما قد شهر بين العباد، فقال له بعض من شهده من طلبة الفقهاء ذلك الوقت: يا سيدي! ليته كان مسلمًا. فبالغ في خصومته مبالغة أخافته، وقال: أي حاجة بهذا إلى الإسلام؟! وأي شيء يفعل هذا بالإسلام؟! سواء كان مسلمًا أو غير مسلم، ونحو هذا الكلام.

إلا أنَّ ابن تيمية كان يرى في الاتحادية خطرًا كبيرًا سيهوي بصوفية ذلك الوقت إلى دركات الكفر. ومعلوم لدى العارفين بتراث شيخ الإسلام في السلوك والتصوّف أنه مُعظِّمٌ لشيوخ الصُّوفيَّة المُتَّبعين للكتاب والسنة، كالفضيل بن عياض، وسهل بن عبد الله التستري، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، والجنيد بن محمد. وكذا يُجلُّ بعض شيوخ الصُّوفيَّة الذين عاشوا قريبًا من عصره كالشيخ نجم الدين الكبرى، والشيخ شهاب الدين السُّهْرَوَرْدي. وكثيرٌ من شيوخ التَّصَوُّف الصحيح في وقته يُجلُّهم ويُجلُّونه، كالشيخ عماد الدين الواسطي، والشيخ شمس الدين الدُّباهي – اللذين رحلا إلى دمشق للقائه - والشيخ أبي محمد ابن القوَّام، الذي تُحكَى عنه كلمةٌ تُعبِّر عن دور ابن تيمية في إصلاح التَّصَوُّف وهي قوله: ما أسلَمَتْ معارِفُنَا إِلَّا على يدِ ابنِ تيمية.

لذا؛ فإن شعور الشيخ بخطر الاتحادية كان نابعًا من هذا الحرص وهذا الانتماء، فرأى في مقالة الاتحاديّة خطرًا على أهل التَّصَوُّف والسلوك يتطلب مواجهةً جادَّة، كما أن خطر التتار على الدولة الإسلامية المملوكية يتطلَّب دفعهم وقتالهم، وفي ذلك يقول: >والله -تعالى- يعلمُ، وكفى به عليمًا، لولا أني أرى دفعَ ضرر هؤلاء عن أهل طريق الله -تعالى- السالكين إليه من أعظم الواجبات، وهو شبيهٌ بدفع التتار عن المؤمنين، لم يكن للمؤمنين بالله ورسوله حاجة إلى أن تُكشَف أسرارُ الطريق وتُهتَك أستارُها، ويقول: فإنَّ إنكار هذا المنكر الساري في كثير من المسلمين أولى من إنكار دين اليهود والنصارى الذي لا يضل به المسلمون، لا سيَّما وأقوال هؤلاء شرٌّ من أقوال اليهود والنصارى وفرعون، ومن عرَف معناها واعتقدَها كان من المنافقين الذين أمر الله بجهادهم بقوله تعالى{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73]، والنِّفاق إذا عظم كان صاحبه شرًّا من كُفَّار أهل الكتاب، وكان في الدرك الأسفل من النار، وليس لهذه المقالات وجهٌ سائغ، ولو قُدّر أن بعضَها يحتمل في اللغة معنى صحيحًا فإنَّما يُحمَل عليها إذا لم يُعرف مقصودُ صاحبها، وهؤلاء قد عُرِف مقصودهم، كما عُرِف دين اليهود والنصارى والرافضة، فإن ضررها على المسلمين أعظمُ من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم.

 وفي الواقع، فإنَّ مواجهة الشيخ لأهل الحلول والاتحاد بدمشق تُعدُّ مرحلةً مهمة ينبغي للدارس لسيرة الشيخ وتراثه أن يراعيَ النظر فيها، وذلك لسببين:

الأوَّل: أنَّها أثَّرت تأثيرًا مهمًّا في مجرى الأحداث التي مرَّ بها بعد ذلك؛ إذ كان تصديه لهذه الفرقة ذات النفوذ والانتشار مُثيرًا لأصحابها، ومحرِّكًا لهم نحو مواجهة الشيخ، وتمكَّنوا بنفوذهم لدى بعض الأمراء من طلبه إلى مصر ثُمَّ حبسه، إلى أن كشف الله المحنة، وأظهر الله بالشيخ من الحق وكشف باطلهم ما كان فيه أعظم النكاية فيهم.

مثال ذلك: ما كتبه الشيخ في توثيقه للمجالس التي عُقِدت لمناظرته في عقيدته بدمشق سنة(705هـ) إلى أن المرسوم السلطاني الذي جاء من مصر بعقد تلك المجالس له كان بسعيٍ من الاتحاديّة: لما سعى إلى السلطان قوم من الجهمية والاتحادية والرافضة وغيرهم من ذوي الأحقاد، وذكر وهو في الحبسة الأولى بمصر أنَّ من الذين نازعوه في الشام من يقول: إن  الله هو هذا الوجود، وأنا  الله، وأنت الله، والكلب والخنزير والعذرة، ويقول: إن الله حالٌّ في ذلك.

الثاني: أنها تعد سبباً من الأسباب المُفسِّرة لنشاط الشيخ بعد ذلك في التصنيف في الردّ على متكلمي الجهمية، أو المتأخرين من الأشعرية، فحملة الشيخ التصنيفية في الرد عليهم والتي تضمنت تصنيفه الكتب الكبار في ذلك كـ (بيان تلبيس الجهمية) و (التسعينية) إنما كانت بعد هذه المرحلة من حياته.

لقد كان الشيخ يعتقد – ويصرح بذلك في بعضِ كلامه - أن المحنة التي مر بها في مصر بعد نشاطه في الرد على الاتحادية كانت نتيجة تحالف اتحادي جهمي ، أي أن الاتحادية استعانوا بمن يقول بمقالة الجهمية في نفي العلو والصفات الخبرية لمواجهة الشيخ ومدرسته.

يقول في كتاب (الصفدية) الذي صنفه بعد عودته إلى دمشق، وانقضاء المحنة المصرية: وكان قد اجتمع بي حُذَّاق هؤلاء (الاتحادية) لما أظهروا محنة أهل السنة لينصروا طريقهم، واستعانوا في الظاهر بمن يوافقهم على نفي الصفات، إما نفي علو الله على خلقه وصفاته الخبرية، أو نفي الصفات مطلقاً ونفي الأفعال والكلام ونحو ذلك من مذاهب الجهمية.

ثناء الشيخ كمال الدين المراغي على دور ابن تيمية في جهاد الاتحاديّة:

يشهد الشيخ لابن تيمية بتفوقه عليه في الرد على الاتحادية، ويشكره على ذلك؛ إذ يقول في ابن تيمية: >هو عندي رجلٌ كبيرُ القدر، عالمٌ، مُجتَهد، شجاعٌ، صاحبُ حقٍّ، كثيرُ الرد على هؤلاء الحلولية والاتحادية، واجتمعتُ به مراراً، وشكرتُه على ذلك، وكان أهل هذا المذهب الخبيث يخافون منه كثيراً، وكان يقول لي: ألا تكون مثلي؟ فأقول له: لا أستطيع!.

ويسجّل ابن تيمية أخباراً أخرى تكشف حال التلمساني حدثه بها الشيخ المراغي، ومع أن المراغي هو الذي أفاد ابن تيمية بهذه الحكايات في بيان حال التلمساني، واعتنى ابن تيمية بتسجيلها في ما صنفه في كشف حال الاتحادية.

تعاون ابن تيمية مع الشيخ عماد الدين الواسطي وغيره من شيوخ التصوّف الصحيح في مكافحة الاتحادية:

كان الإمام عماد الدين الواسطي من كبار أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية، ويسميه ابن تيمية: سيدنا الشيخ عماد الدين,  ونقل عنه ابن رجب أنه سماه: جُنيد وقته. وقال البرزالي: له كلام متين في التصوف الصحيح، وهو داعية إلى طريق الله تعالى، وقال ابن رجب في وصف كتبه: وهي من أنفعِ كُتُب الصوفيَّة للمُريدين، انتفع بها خلقٌ من مُتصوِّفة أهل الحديث ومتعبِّدِيها.

ولنشأة الشيخ عماد الدين في وسط الفرقة الرفاعية أهمية في خبرته في الانحرافات التي تعرض للصوفية، إذ مكث لديهم فترة من الزمان، وكان أبوه شيخ الطريقة، وذلك قبل أن يرحل إلى دمشق، ويلازم ابن تيمية، ويصبح علماً من أعلام مدرسته.

وقد ذكر ابن تيمية تصنيف الشيخ عماد الدين في الردّ على الاتحادية ، فقال: وأما هؤلاء الاتحاديَّة فقد كتبت في كشفَ حقيقة أمرهم كتاباً... وقد كتب سيدنا الشيخ عماد الدين في ذلك رسائل.

التباس حال أئمة الاتحادية على جماعاتٍ من أهل التصوف ودور شيخ الإسلام في إزالته:

وقد بيَّن شيخ الإسلام سبب التباس حال أئمة الاتحادية على جماعاتٍ من أهل التصوف من أهل الزهد والعبادة والصدق، ممن لا يقولون بقولهم، وهو أنهم >لا يفهمون حقيقة قول الاتحادية، بل يحسبُون أنَّه تحقيقُ ما جاء به الرسول، وأنه من جنس كلام أهل المعرفة الذين يتكلمون في حقائق الإيمان والدين، وهم من خواص أولياء الله، فيحسبون هؤلاء – أئمة الاتحادية - من جنس أولئك، من جنس الفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله، وأمثال هؤلاء.

وكان للشيخ سعيٌ ناجحٌ في إزالة هذا الالتباس عن بعض معظمي ابن عربي، وبيان حقيقة كلامه، وأنه القول بالاتحاد بين الخلق والخالق، في سنة 704هـ، أي قبل سنة واحدة من طلب الشيخ إلى مصر، أرسل إلى الشيخ نصر المنبجي، رسالة تفيض بالأدب والخطابِ الرّفيع، تعرف بـ (الرسالة المصرية) قدّم فيها نموذجاً يحتذى في أدب النصيحة، يثني عليه فيها ثناء بالغاً، ويقصد فيها إزالة الالتباس الحاصل للشيخ نصر في حال ابن عربي، فيشرح له فيها حال الاتحادية، ويبين أن كتاب (الفصوص) لابن عربي يتضمّن القول بالاتحاد، يقول فيها: وقد بلغني أن بعض الناس ذكر عند خدمتكم الكلام في مذهب الاتحادية، وكنت قد كتبت إلى خدمتكم كتاباً اقتضى الحالُ - من غير قصدٍ - أن أشرتُ فيه إشارةً لطيفة إلى حال هؤلاء، ولم يكن القصدُ به - والله - واحداً بعينِه، وإنَّما الشيخ هو مجمعُ المؤمنين فعلينا أن نعينَه في الدين والدنيا بما هو اللائق به، وأمَّا هؤلاء الاتحاديَّة فقد أرسل إلى الداعي مَن طلب كشْفَ حقيقة أمرهم، وقد كتبتُ في ذلك كتاباً ربما يُرسَل إلى الشيخ وقد كتبَ سيدنا الشيخ عماد الدين >الواسِطيُّ) في ذلك رسائل، والله تعالى يعلم - وكفى به عليماً - لولا أني أرى دفع ضرر هؤلاء عن أهل طريق الله -تعالى -السالكين إليه من أعظم الواجبات، وهو شبيهٌ بدفع التتار عن المؤمنين، لم يكن للمؤمنين بالله ورسوله حاجةٌ إلى أن تُكشَف أسرار الطريق وتُهتَك أستارها، ولكن الشيخ - أحسن الله تعالى إليه - يعلمُ أنَّ مقصود الدعوة النبويَّة، بل المقصود بخلق الخلق وإنزال الكتب وإرسال الرسل: أن يكون الدين كله لله، وهو دعوة الخلائق إلى خالقهم بما قال -تعالى-:  { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا  (46) }[الأحزاب:45-46]، وقال- سبحانه-:{ قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ }[يوسف:108]، وقال -تعالى-: { وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ 52 صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ }[الشورى:52-53] وهؤلاء موَّهوا على السَّالِكين التوحيد - الذي أنزل الله -تعالى- به الكتب وبعث به الرسل - بالاتِّحاد الذي سمَّوه توحيداً، وحقيقتُه تعطيلُ الصانع وجحودُ الخالق.

وإنما كُنتُ قديماً ممن يُحسِن الظنَّ بابن عربي ويُعظِّمُه لما رأيت في كتُبِه من الفوائد، مثل كلامه في كثير من (الفتوحات) و(الكنه) و(المحكم المربوط) و(الدرة الفاخرة) و(مطالع النجوم) ونحو ذلك، ولم نكن بعدُ اطَّلَعنا على حقيقة مقصوده، ولم نطالع (الفصوص) ونحوه ، وكُنَّا نجتمع مع إخواننا في الله نطلبُ الحقَّ ونتَّبِعُه، ونكشفُ حقيقة الطريق، فلما تبين الأمر عرفنا نحن ما يجب علينا، فلما قَدِم من المشرق مشايخُ مُعتبرون وسألوا عن حقيقة الطريقة الإسلامية والدين الإسلامي وحقيقة حال هؤلاء: وجبَ البيان. والشيخ - أيَّدَه الله تعالى بنور قلبِه، وذكاء نفسه، وحقق قصده من نصحه للإسلام وأهله ولإخوانه السالكين - يفعلُ في ذلك ما يرجو به رضوانَ الله سبحانه، ومغفرَتَه في الدنيا والآخرة. ويقول بعد أن يذكر معنى الاتحاد العامّ ولوازِمَه التي يقول بها ابن عربي: وهذه المعاني كلُّها هي قول صاحب الفصوص، والله تعالى أعلم بما مات الرَّجُل عليه ،  وفي رسالته إلى أهل بعلبك: وأما نفس المتكلّم بهذا الكلام مثل ابن العربي وغيره، فيمكن أنه قد تاب منه، ويمكن أنه ما تاب منه، فإن كان مات مؤمناً بالله ورسوله فهو من المؤمنين، وإن كان على غير ذلك فهو من المنافقين، والله أعلم بسريرته، وإلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم. 

هذه كانت نبذة يسيرة من جهاد شيخ الإسلام وسعيه الدؤوب في محاربة الصوفية الفلسفية ممن يقولون بالاتحاد والحلول وتعاونه مع أهل التصوف السلوكي في صدهم , كذلك سعيه في تجلية أمرهم وفضحهم وبالأخص على من خفي أمرهم عليهم كأهل التصوف السلوكي.

يظهر لنا مما سبق حكم شيخ الإسلام على الصُّوفيَّة عمومًا وأنهم عنده ليسوا على درجة واحدة من مواقفه معهم حيث يقول أيضًا: تنازع الناس في طريقهم؛ فطائفة ذمت الصوفية والتصوف. وقالوا:إنهم مبتدعون خارجون عن السنة وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء وكلا طرفي هذه الأمور ذميم. و"الصواب" أنهم ليسوا على درجة واحدة فمنهم السابق المقرب بحسب اجتهاده وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب. ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه. وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة؛ ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم: كالحلاج مثلا؛ فإن أكثر مشايخ الطريق أنكروه وأخرجوه عن الطريق. مثل: الجنيد بن محمد سيد الطائفة وغيره. كما ذكر ذلك الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي؛ في  >طبقات الصوفية< وذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد.

وقال شيخ الإسلام: والشيوخ الأكابر الذين ذكرهم أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية، وأبو القاسم القشيري في الرسالة كانوا على مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب أهل الحديث كالفضيل بن عياض والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وعمرو بن عثمان المكي، وأبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي وغيرهم، وكلامهم موجود في السنة، وصنفوا فيها الكتب لكن بعض المتأخرين منهم كان على طريقة بعض أهل الكلام في بعض فروع العقائد، ولم يكن فيهم أحد على مذهب الفلاسفة، وإنما ظهر التفلسف في المتصوفة المتأخرين فصارت المتصوفة على ثلاثة أقسام: تارة على طريقة صوفية أهل الحديث، وهم خيارهم وأعلامهم، وتارة على اعتقاد صوفية أهل الكلام، فهؤلاء دونهم وتارة على اعتقاد صوفية الفلاسفة كهؤلاء الملاحدة.

إلى هنا ينتهي حديثنا على أن يكون حديثنا في المرة القادمة إن شاء الله تعالى حول التَّصَوُّف في العصر العثماني وسماته.  

 

أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم

الكلمات الدلالية