الصوفية.. رؤية من الداخل (5)
أسباب انحراف الصوفية
كتبه/ إمام خليفة
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى لا سيما عبده المصطفى، وآله المستكملين الشرفا، وبعد..
تكلمنا في المقال السابق عن عن بداية الإنحراف في الأمة وظهور الفرق وما هو الموطن الأصلي الذي ظهرت فيه الصوفيه واليوم بإذن الله تعالى نتكلم عن أهم الأسباب التي أدت إلى إنحراف الصوفية سواء في السلوك او في الاعتقاد
سادساً: أسباب انحراف الصوفية
يمكن أن نجمل أهم أسباب إنحراف الصوفية سواء في العقيدة أو السلوك فيما يلي :
1_قلة العلم بالدين عامة وبأسماء الله وصفاته خاصة
أَهْلُ " الْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ "يُزَيِّنُ لَهُمْ الشَّيْطَانُ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ وَيُبَغِّضُ إلَيْهِمْ السُّبُلَ الشَّرْعِيَّةَ حَتَّى يُبَغِّضَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فَلَا يُحِبُّونَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَلَا ذِكْرَهُ وَقَدْ يُبَغِّضُ إلَيْهِمْ حَتَّى الْكِتَابَ فَلَا يُحِبُّونَ كِتَابًا وَلَا مَنْ مَعَهُ كِتَابٌ وَلَوْ كَانَ مُصْحَفًا أَوْ حَدِيثًا؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَشْعَرُوا أَنَّ هَذَا السبيل فِيهِ مَا يُخَالِفُ طَرِيقَهُمْ فَصَارَتْ شَيَاطِينُهُمْ تُهَرِّبُهُمْ مِنْ هَذَا كَمَا يُهَرِّبُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ ابْنَهُ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَا يَتَغَيَّرَ اعْتِقَادُهُ فِي دِينِهِ وَكَمَا كَانَ قَوْمُ نُوحٍ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَيَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ لِئَلَّا يَسْمَعُوا كَلَامَهُ وَلَا يَرَوْه. وقوله -تعالى- {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]
وَكذلك هُمْ مِنْ أَرْغَبْ النَّاسِ فِي السَّمَاعِ الْبِدْعِيِّ سَمَاعِ الْمَعَازِفِ. وَمِنْ أَزْهَدِهِمْ فِي السَّمَاعِ الشَّرْعِيِّ سَمَاعِ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَانَ مِمَّا زَيَّنَ لَهُمْ طَرِيقَهُمْ أَنْ وَجَدُوا كَثِيرًا مِنْ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ وَالْكُتُبِ مُعْرِضِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُلُوكِ سَبِيلِهِ إمَّا اشْتِغَالًا بِالدُّنْيَا وَإِمَّا بِالْمَعَاصِي وَإِمَّا جَهْلًا وَتَكْذِيبًا بِمَا يَحْصُلُ لِأَهْلِ التَّأَلُّهِ وَالْعِبَادَةِ فَصَارَ وُجُودُ هَؤُلَاءِ مِمَّا يُنَفِّرُهُمْ كَمَا حدث جَعْفَر الخلدي يقول: لو تركني الصوفية لجئتكم بإسناد الدنيا.مضيت إِلَى عباس الدوري وأنا حدث، فكتبت عنه مجلسا واحدا، وخرجت من عنده فلقيني بعض من كنت أصحبه من الصوفية فَقَالَ: أيش هذا معك؟ فأريته إياه. فَقَالَ:ويحك، تدع علم الخرق، وتأخذ علم الورق! قَالَ: ثم خرق الأوراق، فدخل كلامه فِي قلبي. فلم أعد إلى العبّاس.. وَكَذَلِكَ حَكَى السَّرِيُّ السقطي: أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ دَخَلَ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى عِنْدَهُ مِحْبَرَةً وَقَلَمًا خَرَجَ وَلَمْ يَقْعُدْ عِنْدَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ سَهْلُ بْنُ عبد اللَّهِ التستري منكرا عليهم : يَا مَعْشَرَ الصُّوفِيَّةِ لَا تُفَارِقُوا السَّوَادَ عَلَى الْبَيَاضِ فَمَا فَارَقَ أَحَدٌ السَّوَادَ عَلَى الْبَيَاضِ إلَّا تَزَنْدَقَ. وَقَالَ الْجُنَيْد: عِلْمُنَا هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَا يُقْتَدَى بِهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ.
2_تقديم الاشتغال بالعبادة والتأله على الاشتغال بالعلم
قال ابن الجوزي: وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عَن العلم وأراهم أن المقصود العمل فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا فِي الظلمات فمنهم من أراده أن المقصود من ذلك ترك الدنيا فِي الجملة فرفضوا مَا يصلح أبدانهم وشبهوا المال بالعقارب ونسوا أنه خلق للمصالح وبالغوا فِي الحمل عَلَى النفوس حتى أنه كان فيهم من لا يضطجع وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم عَلَى غير الجادة وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وَهُوَ لا يدري. ولاشك أن هذا النوع لم يعد موجودا فيهم الا نادرا بل صار الاقبال على الدنيا وشهواتها هو الأغلب والأعم ومع ذلك فحتى لو كان موجودا فليس من هديه صلى الله عليه وسلم كما قال صلى الله عليه وسلم أما إني أقوم وأرقد وأصوم وأفطر فمن رغب عن سنتي فليس مني.
قال شيخ الاسلام: وَأَهْلُ السُّنَّةِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ: كَانَ كَلَامُهُمْ وَعَمَلُهُمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِعِلْمِ وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ قَوْلِهِمْ وَعَمَلِهِمْ مَقْرُونًا بِالْآخَرِ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُسْلِمُونَ حَقًّا الْبَاقُونَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. فَإِنَّ مُنْحَرِفَةَ أَهْلِ الْكَلَامِ فِيهِمْ شَبَهُ الْيَهُودِ وَمُنْحَرِفَةَ أَهْلِ التَّصَوُّفِ فِيهِمْ شَبَهُ النَّصَارَى؛ وَلِهَذَا غَلَبَ عَلَى الْأَوَّلِينَ جَانِبُ الْحُرُوفِ وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ. وَعَلَى الْآخَرِينَ جَانِبُ الْأَصْوَاتِ وَمَا يُثِيرُهُ مِنْ الْوَجْدِ وَالْحَرَكَةِ. وَمِنْ تَمَامِ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَدْعُوَ إلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَيُجَادِلَهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَهَذِهِ الطُّرُقُ الثَّلَاثَةُ: هِيَ النَّافِعَةُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ
3__الرغبة عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام
فكانوا إذا دخلوا في عبادات منهي عنها ومذمومة و لمّا لم يجدوا الصحابة والتابعين تكلموا بمثل كلامهم، بل ولا نقل ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، صار منهم من يقول: كانوا مشغولين بالجهاد عن هذا الباب، وأنّهم هم حققوا ما لم يحققه الصحابة. ويقولون أيضاً: إنّ الرسول لم يعلمهم هذا، لئلا يشتغلوا به عن الجهاد؛ فإنّه كان محتاجا إليهم في الجهاد وهكذا يقول من يقول من مبتدعة أهل الزهد، والتصوف؛ إذا دخلوا في عبادات منهي عنها، ومذمومة في الشرع، ومن أهل الكلام من يقول: بل الصحابة كانوا على عقائدهم، وأصولهم، لكن لم يتكلموا بذلك؛ لعدم حاجتهم إليه.
فهؤلاء جمعوا بين أمرين؛ بين أن ابتدعوا أقوالاً باطلةً ظنّوا أنّها هي أصول الدين، لا يكون عالما بالدين إلا من وافقهم عليها، وأنّهم علموا، وبيّنوا من الحق ما لم يُبيّنه الرسول والصحابة..فصاروا على حد زعمهم أعلم بالله من الصحابة والله عزوجل يقول {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [البقرة: 137] وقال صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية (هي من كانت على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)
4_اتخاذهم مصادر للتلقي غير الكتاب والسنة
لانهم يتلقون ما تستحسنه عقولهم وترتاح له نفوسهم فيتعبدون لله به , وَقَدْ كان أوائل الصوفية يقرون بأن التعويل عَلَى الْكِتَاب والسنة وإنما لبس الشَّيْطَان عليهم لقلة علمهم وهذا لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ سَلَكُوا فِي الْعِبَادَةِ لِلَّهِ مُجَرَّدَ مَحَبَّةِ النَّفْسِ وَإِرَادَاتِهَا وَهَوَاهَا أي ما تحبه نفوسهم وتهواه ، مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ بِالْعِلْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَضَلُّوا بِسَبَبِ ذَلِكَ ضَلَالًا يُشْبِهُ ضَلَالَ النَّصَارَى.فقدموا الوجد والذوق والكشف على الكتاب والسنة
وقد قال أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ -: " كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ "، وقال الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ الداراني: إنَّهُ لَيَقَعُ فِي قَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ : " مِنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ، وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [سُورَةُ النُّورِ: 54]
وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَظُنُّ أَنَّهُ يَصِلُ بِرِيَاضَتِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي الْعِبَادَةِ وَتَصْفِيَةِ نَفْسِهِ إِلَى مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ، مِنْ غَيْرِ اتِّبَاعٍ لِطَرِيقِهِمْ ، وَفِيهِمْ طَوَائِفُ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ صَارُوا أَفْضَلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ الْوَلِيَّ الَّذِي يَظُنُّونَ هُمْ أَنَّهُ الْوَلِيُّ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِيهِمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ الْعِلْمَ بِاللَّهِ مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ، وَيَدَّعِي فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ, كما سيأتي تقرير ذلك إن شاء الله
5_تقليد المشايخ في أغلاطهم وزلاتهم
فَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ لِلشَّيْخِ قَصَائِدَ يُسَمِّيهَا " جَنِيبَ الْقُرْآنِ " وَيَكُونُ وَجْدُهُ بِهَا وَفَرَحُهُ بِمَضْمُونِهَا أَعْظَمَ مِنْ الْقُرْآنِ وَيَكُونُ فِيهَا مِنْ الْكَذِبِ وَالضَّلَالِ أُمُورٌ.ووصل بهم الغلو في تقليد مشايخهم إلى أن مجرد الاعتراض على الشيخ ولو بقلبه يمنع صاحبه من الفلاح ولا شك أن هذا من الغلو الذي حذرنا منه صلى الله عليه وسلم فقال (إياكم والغلو) وقال ابن عباس يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم (قال لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر)
كانت هذه أهم الامور التي أدت إلى انحراف الصوفية وهناك أسباب أخرى فرعية سوف نذكرها بإذن الله في ثنايا البحث على أن نكمل الحديث في المقال القادم بإذن الله تعالى حول أنواع التصوف الإسلامي وأهم ما يميز كل نوع.