الفاروق .. ومعالم النهضة النسائية

الفاروق .. ومعالم النهضة النسائية
الثلاثاء ٠١ مارس ٢٠٢٢ - ١٤:٥٢ م
82

الفاروق .. ومعالم النهضة النسائية

 كتبه / وائل سرحان

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم .. أما بعد ..

 (كنا لا نعد النساء شيئًا .. معالم نهضة)

 إن دعوات الإصلاح التي تنتسب إلى الإسلام ينبغي أن تتسم بالشمولية ، فنسبة هذا الإصلاح إلى الإسلام تعني أنه ينبغي أن يكون فيه سمات الإسلام وصفاته ، ومن ذلك الشمولية ، التي هي من أهم سمات الإسلام ، هذه الشمولية لم تكن شمولية لجميع مناحي الحياة فقط ، إنما كذلك لجميع أجناس النوع البشري وجميع صفاته .

 ومن عرف شريعة الإسلام وجدها محكمة ، ، فالله أتقن خلقه وأبدعه ، وكذلك شرعه قد أحكمه ، فناسب إتقان الخلق إحكام الشرع ، فشرعه تبارك وتعالى دليل على وجوده ودليل وحدانيته ، وهو دليل على كمال أسمائه ووصفاته ، وهو دليل معجز على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه .

 وقد جاءت شريعة الإسلام تراعي هذا الإتقان في جميع الخلق سيما الإنسان ، تراعي طبيعة الإنسان التكوينية وصفاته من حيث إنه إنسان ، فجاءت شريعة الإسلام شاملة لجوانب النفس البشرية والطبيعة الإنسانية ، ما كان منها ثابت مركوز في فطرة الإنسان وطبيعة خلقه ، وما كان منها متغيرًا يواكب مرور السنين وتطور الأحداث وتقدم الإنسان .

 وكذلك كانت دعوة الإصلاح النبوية ، فكانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ومن تأسى بسيرته وسيرة أصحابه في الإصلاح والتغيير ، دعوة شاملة لجميع مناحي الحياة ، وجميع جوانب النفس الإنسانية .

 ولقد اهتمت دعوة الإسلام فيما اهتمت به بإصلاح المرأة من حيث كونها إنسانا ، مراعية طبيعتها وتكوينها النفسي والجسمي ، فمن خلقها وخلق لها وفيها صفاتها أنزل لها شرعه يصلحها ، كما الرجل سواء بسواء .

 ولقد كانت كلمة (كنا) لفاروق الأمة رضي الله عنه تدل دلالة واضحة على أثر الإسلام في التغيير والإصلاح ، وتدل على جوانب التغيير التي اهتمت بها دعوة المسلمين الأوائل ، كما تدل على تبدل الحال بعد ذلك الإصلاح .

 فلما قال رضي الله عنه : "كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام " كان ذلك دليلًا على تغير الحال من الضعة والذلة إلى السؤدد والعزة ، وكذلك حملت هذه العبارة منهج الإصلاح والتغيير ، فهذا الإصلاح والتحول وذلك العز والسؤدد ، كان بالإسلام ولم يكن بشيء سواه ، فوصف الحال ووضح المنهج الذي أوصل إليه .

 وكذلك قال الفاروق رضي الله عنه مبينا تحولًا آخر وتغييرا جديدًا حصل في المجتمع ، ومبينًا جانبًا من جوانب التغيير التي اهتم بها المسلمون في نهضتهم بالإسلام ، قال رضي الله عنه كما في صحيح البخاري (5843) :"(كنا) في الجاهلية لا نعد النساء شيئًا، فلما جاء الإسلام وذكرهن الله ، رأينا لهن بذلك علينا حقًّا، من غير أن ندخلهن في شيء من أمورنا".

 وهذا الحق ليس في حسن المعشر فقط ، والنفقة إنما جاءت كلمته رضي الله عنه (حقًّا) نكرة لتفيد العموم ، فمن ذلك الحق – مثلًا - التعليم فلقد خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتعليم والوعظ .

 غير أن هذا العموم الذي جاء في كلمة (حقًّا) خص منها الشئون التي يتولاها الرجال ؛ فقد قال رضي الله عنه : (من أمورنا) أي : شؤوننا التي يتولاها الرجال عادة .

 فمهما نهضت الأمة نهضت معها نساؤها ، خاصة في المجالات التي تحسنها النساء وتوافق طبيعتها الأنثوية ، كمجال العلم والتعليم والثقافة والتربية .

 ولقد سطرت المرأة في عصور الإصلاح وبدايات النهضة أمجادًا كما سطر الرجال أمجادًا في تلك العصور ، ففي بداية الإصلاح الأول كانت المرأة أول المؤمنين ، وأول الشهداء ، ومن أول المهاجرين ، وكانت في أول أنصار الإسلام في البيعتين الأولى والثانية .

 لقد شمل الإصلاح النبوي المرأة فبعد أن كان حالها كما ذكر عمر رضي الله عنه [كنز العمال (4670- 2/ 535)] : "(كنا) ونحن بمكة لا يكلم أحد منا امرأته ، إذا كانت له حاجة سفع برجليها، فقضى منها حاجته" ، لقد كانت المرأة "زريه مهانة لاحق لها ولا كرامة ، لا يعتد بها في رأي ولا وجود ، استعبدها الرجال في ذلة وامتهان ، وان سألت لا تجاب ، وإن احتيج إليها فللاحتطاب والتقاط النوى للإبل ، فان تسامت فللشهوات ، يوم خروجها للدنيا يوم تسوَد فيه الوجوه".

 وبعد أن كان حالها على ذلك الوصف ارتقت المرأة نفسًا وعقلًا وعلمًا وثقافة ، فأخذت المرأة في عهد النبوية تطالب بحقها في أسمى الجوانب التي يمكن أن يظهر فيها نبوغ المرأة ويمكن أن تتجلى فيه عبقريتها ، ولا أبعد إن ادعيت أنها أهم عوامل الإصلاح وأهم دعائم النهضة ، لقد أخذ النساء في عصر النبوة يطالبن بحقهن في طلب العلم .

 ففي البخاري (7310) ، ومسلم (2633) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ! ذهب الرجال بحديثك ، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله ، فقال : اجتمعن فأتاهن فعلمهن مما علمه الله"

 وفي البخاري (961) عن جابر بن عبد الله قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر فصلى ، فبدأ بالصلاة ثم خطب فلما فرغ نزل ، فأتى النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال رضي الله عنه .

 ولقد كان للمرأة انجازات وكان لها حضور بارز في المجتمع في عصور النهضة والإصلاح تدل على شمول دعوات الإصلاح والنهضة لإصلاح المرأة ، ولقد كانت هذه الإنجازات في شتى مناحي الحياة التي تتناسب مع طبيعة المرأة الجسدية والنفسية والشعورية .

 وهذا ابتداء من عصر النبوة ، فهذه أم المؤمنين عائشة تأخذ منها أمة الإسلام علومها فعندها نصف العلم. وكانت مقصد فقهاء الصحابة لتعلم العلم والفقه وحل معضلات المسائل العلمية ، ففي الترمذي (3883 ) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : ما أشكل علينا أصحاب محمد أمر قط فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا (صححه الألباني) ، وفي الموطأ وغيره قال مسروق : رأيت مشيخة أصحاب محمد الأكابر يسألونها عن الفرائض.

 وقد أخذ عنها العلم ما يقرب من ثلاثمائة من الصحابة والتابعين ، وتعلم على يديها من النساء في هذا العصر المتقدم سبع وستون ( 67 ) امرأة 0

 وأخذ كبار فقهاء الإسلام وعمالقته والأئمة المحدثون وكبار العلماء العلمَ عن نساء وتتلمذوا على أيديهن :

 فروى الإمام مالك عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص الزهرية المدنية ، ولم يرو مالك عن امرأة غيرها ". كما قال الخليلي.

 وسمع الإمام الشافعي الحديث - من وراء حجاب - من نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي ، وكانت عالمة بالتفسير والحديث.

 وحدث الإمام أحمد عن أم عمر بنت حسان بن زيد الثقفي 0

 وكانت المرأة إحدى رواة صحيح البخاري ؛ كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروزية .

 وما ورد عن السلف في عصور القوة والنهضة تضيق عنه هذه الكلمات الوجيزة .

 وقد سمع الخطيب البغدادي من " طاهرة بنت أحمد بن يوسف التنوخية " الفقيهة المحدثة.

 ومن العجائب أن الحافظ ابن حجر العسقلاني أخذ - فيمن أخذ عنه مذاكرة أو إنشاء- عن أخته ، وكان إذا ذكرها قال : هي أمي بعد أمي ، فقد ربته وحدبت عليه وعلمته وماتت ولم تبلغ الثامنة والعشرين من عمرها 0

 وأعجب من ذلك :

 -أن الإمام السمعاني قد سمع من تسع وستين محدثة وراوية للحديث .

 - والحافظ ابن عساكر (حافظ الأمة ) أخذ الحديث - ممن أخذ عنهم - بضع وثمانين محدثة من النساء ، وقد ألف رسالة في سيرهن في تاريخ دمشق .

 ويقول الإمام ابن حزم الأندلسي : " ربيت في حجر النساء ، ونشأت بين أيديهن ، ولا أعرف غيرهن ، ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب00وهن علمنني القرآن ، وروينني كثيراً من الأشعار ، ودربنني الخط " 0

 وإن المرء ليعجب – عند مطالعة خبر ابن عساكر ، والسمعاني خاصة - من هذا النبوغ النسوي ، أن تتوفر كل هاتيك العالمات في علم واحد في قطر واحد ، فقد ذكر دمشق وحدها ولم يذكر العراق ولا مصر ولا المغرب ولا الأندلس.

 بل قد فاقت النساءُ الرجالَ في العلم من بعض الوجوه ، وهو أن روايتها الحديث سالمة من التهم والتضعيف ، قال الذهبي [ميزان الاعتدال (4/604)]: «وما علمتُ في النساء من اتهمت، ولا من تركوها» . وكذلك قال ابن حجر في لسان الميزان (7/522).

 وهذا النبوغ وتلك الإنجازات لم تكن في عصر من عصور النهضة دون آخر ، بل هو وصف ثابت وسمة مستمرة في كل عصور القوة والنهضة ، وعامل رئيس من عوامل الإصلاح وفي عصور القوة على مدى التاريخ الإسلامي ففي الطبقات الكبرى لابن سعد ذكر كثيرًا من الصحابيات والتابعيات الراويات ، وخصص ابن الأثير في كتابه (أسد الغابة) جزءًا كاملا للنساء ، وكذلك ذكر ابن حجر في (تقريب التقريب) أسماء ثمانمائة وأربعًا وعشرين (824) امرأة ممن اشتهرن بالرواية حتى مطلع القرن الثالث الهجري ، وأورد السخاوي في (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع) أكثر من ألف وسبعين (1070) ترجمة لنساء برزن في ذلك القرن ، معظمهن من المحدثات الفقيهات0

 وهكذا في جميع عصور قوتنا بلا استثناء فعلى سبيل المثال في القرن السادس : فاطمة بنت عباس بن أبي الفتح البغدادية الحنبلية اتقنت الفقه إتقانًا بالغًا ، وكان تقي الدين بن تيمية يفتيها ويتعجب من حسن فهمها ويبالغ في الثناء عليها ، ووصفها ابن رجب الحنبلي بـ "الشيخة الفقيهة العالمة المسندة المفتية الفاضلة المتقنة المتفننة الواحدة في عصرها والفريدة في دهرها المقصودة من كل ناحية ".

 وفي القرن الثالث عشر كانت فاطمة بنت الشيخ محمد بن عبدالوهاب تقوم بتدريس النساء ثم تجلس لتدريس الرجال من طلاب العلم ، وتجعل بينها وبينهم سترة أثناء التدريس 0 ، وحينما استقرت في عمان نشرت العقيدة السلفية بين أهلها ، وتدريسهم التوحيد الخالص لله تعالى 0

 ومما يدل على فقهها وعلمها أنه حينما سارت إلى الحج مرت بقبر في الطريق ، فطلب سادن القبر من قائد راحلتها أن يقدم هدية لصاحب القبر بدعوى أنه ولي فانتهره وقال : "لا أقدم له إلا التراب" ، فتكلمت فاطمة وهي في الهودج قائلة : ولا تقدم حتى التراب ثم استدلت بحديث النبي صلى الله عليه وسلم : " دخل رجل الجنة في ذباب ودخل رجل النار في ذباب..."

 لقد بلغت المرأة في ذلك مبلغًا عظيمًا يدل نضوجها العقلي والفكري والثقافي في تلك الأزمنة ، ففي بعض عصور القوة كانت العروس لا تجهز إلا ومعها بعض الكتب الشرعية النافعة ، فذكر الذهبي في السير (10/ 134) أن البكر كان في جهازها عند زفافها نسخة من كتاب "مختصر المزني".

 ومما يدهش المرء له ما قيل عن نساء الأندلس – وما أدراك ما الأندلس ، حاضرة الإسلام المفقودة – أنك لو مررت على المرأة تعمل في الحقل تقرضك من أي أنواع القريض شئت ، فإذا كان هذا حال النساء العاملات في الحقول فما بالك بمن كن خلف الخدور من طالبات العلم وأبناء العلماء والسادة والرؤساء!!

 ففي عصور عزنا وقوتنا كان للمرأة حضورها النافع والمتميز في المجتمع ، واشتغلت النساء في وظائف أجدن فيها وبرعن وبرزن ونافسن الرجال فقد كان في قرطبة وحدها دكان نسخ واحد، يستخدم مائة وسبعين جارية في نسخ المؤلفات لطلاب الكتب النادرة .

 ما ورد في هذه العجالة ما هو إلا نماذج وأمثلة ، ولو ذهبنا نستقصي لأعيانا العد وأرهقنا الحصر ، ولما استطعنا ولم نجد إليه سبيلًا .. إن ذلك كان معالم نهضة ، وليست حوادث منفردة ، تقل أو تكثر .

 فهذه دعوة لأن يهتم المصلحون – إذا أرادوا التأسي بدعوات الإصلاح النبوية ، والنهضة الإسلامية - بالمرأة اهتمامًا يليق بدورها ، ولن تكون دعوات الإصلاح كاملة أو شاملة حتى تشمل نصف الإنسان ، ونصف البشرية عددا أو يزيد ، ومن الظلم للمرأة ، ومن خلل الإصلاح وعراقيل النهضة أن نهمل إصلاحها أو أن نقحمها فيما لا تطيقه ولا تستطيعه ، ولنكن على ذُكْر من قول الفاروق بدايته ونهايته .

 إن ضعف النساء عقلًا وفكرًا ، ونفسًا وعملًا يدل على أننا لازلنا نراوح في مكاننا في بدايات طريق النهضة والإصلاح.

 والحمد لله رب العالمين .




أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم