قبل أن تسودوا
كتبه/ وائل سرحان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن أمر أمتنا اليوم عظيم، وأعباء إخراجها من وهدتها جسيمة، ومسؤوليتنا إزاء ذلك ضخمة، وهذه المسئولية وتلك الأعباء ليست مسئولية فرد دون فرد، إنها مسئولية الجميع، جماعات وأفرادًا، شيبًا وشبانًا، رجالاً ونساءً.
سيسأل كل منا عن هذه المسئولية فالمرء سيسأل عن نفسه وعمله فقط، لن يسأل أعمل غيرُه أم جبن عن العمل، قال -تعالى-: (أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى . وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى . وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى . ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى) (النجم:38-41)، فكل منا سيقف بين يدي ربه -جل شأنه- فردًا، وسيُسأل فردًا عما عمل (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) (مريم:95).
فعلينا أن نبذل وننفق من النفس والنفيس دون أن نلتفت إلى غيرنا اجتهد أم قصر، تفانى أم تقاعس، عمل أم لم يعمل، وعلينا ألا ننظر إلى المتساقطين على الطريق، والنتائج أمرها موكول إلى مسبب أسبابها: (إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاَغُ) (الشورى:48)، وقال: (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ) (البقرة:272).
إن نصرة هذه الأمة بدين الله وتحمل تبعات هذه المهمة الضخمة هي وظيفتنا في هذه الحياة فهي جزء من عبوديتنا، وهذا هو قدرنا ولا خيار في قبوله أو رفضه، هذه المسؤولية تفرض على كل منا أن يبادر إلى الدعوة إلى الله والعمل لدينه، فكم نحن بحاجة إلى من يحمل هم هذا الدين، يبيت على هم هذه الأمة ويصحو على الأمل والسعي في نصرتها، فإن نصر أمتنا ينبغي أن تتوفر له همم سامقة وعزيمة لا تفل، وعمل دءوب لا يمل.
غير أن هذه المهمة الهامة لا يصلح لها كل مَن ادعاها، فـ"ريادة الإصلاح والبناء منزلةٌ في الدين عظيمة لا تُنال إلا بحقها"، فقد شاء الله أن يكون نصر دينه على أفراد اصطفاهم أو طائفة اجتباها، فلابد للقائم بها من صفات خاصة وسمات معينة حتى نرث الأرض وتكون لنا العاقبة وها هي الصفات والسمات، قال -تعالى-: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف:128)، (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء:105).
فلابد لمن تعرض لهذه الوظيفة الشريفة من إعداد وتأهيل حتى يستطيع تحمل ثقل هذه الأمانة فلابد له من الإعداد الذاتي أو التربية الذاتية (الفردية)، وهذه ليست هينة، فهي تحتاج إلى الصبر على عقبات الطريق وفقد الرفيق، والمثابرة على إعداد النفس، وتحتاج إلى فقه البناء المتدرج المتكامل.
وهذه التربية الذاتية لها أسس تقوم عليها، أولها: "الإعداد العلمي"؛ لذا كان البخاري -رحمه الله- مسددًا فقيهًا حين عنون لباب العلم بهذه الترجمة: "باب العلم قبل القول والعمل"، فكل عمل ودعوة لا تقوم على العلم والفهم دعوة بها خلل وقصور، تُفِسدُ أكثر ممّا تُصلِح، وقد تجلب على الدعوة عواقب وخيمة وآثارًا موجعة، والعلم والفقه في الدين يتطلب نفسًا جادة، تتحمل مشاق تعلمه، ومعاناة طلبه، وتعب تحصيله، والصبر على التلمذة والتأدب على يد شيوخه وأساتذته.
فالإعداد والتربية العلمية مطلب ضروري ومُلِحٌّ للبناء الذاتي لمن أراد أن يتحمل تبعة نصرة الأمة وحراسة الدين، وهو مطلب لا غنى عنه لأي داعية يُعِدُّ نفسه ويُهيئها لنفع أمته؛ ليكون بصيرًا في دعوته، عالماً بما يدعو إليه، مثمرًا في عمله، ناجحًا في أسلوبه، ثابتًا على منهجه.. (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) (يوسف:108).
ولعل هذا مما عناه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه بقوله-: "تفقهوا قبل أن تسودوا". وهذه التربية الذاتية لصاحب هذه المهمة لها أسس أخرى هامة، أسس تعينه على عناء الطريق وعقباتها وآفات النفوس وأمراضها، منها: التقوى، والتحصن بالعبادة، فالاستقامة على هذا الدين، والصبر على العمل من أجله تحتاج إلى زاد ووقود يغذي القلوب للاستمرار والثبات، ولا زاد ولا وقود كقيام الليل وترتيل القرآن بالأسحار.
من أجل ذلك أوجبه الله -جلت حكمته- على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى المؤمنين الأوائل فقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ . قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلاً . نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلاً . إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (المزمل:1-5)، (قُمِ اللَّيْلَ): "قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك.. قم الليل حتى تستطيع الجهد والنصب والكد والتعب.. قم فتهيأ لهذا الأمر، قم الليل للاستعانة على ما سيواجهك من أعباء الدعوة ومشكلاتها بالعبادة المتواصلة" (الظلال بتصرف واختصار).
فعلى صاحب هذه المهمة السامية، العلية العالية أن يحسن الإعداد في بداية التهيؤ لها، فإن الأمر جلل، فهو لا يسعى ليصنع مجدًا شخصيًّا يزول بزواله، أو رغبة دنيوية تفنى بفنائه، إنه يسعى ليعيد مجد "دين الإسلام"، إنه يريد أن يبني أمة، أمة الإسلام، ولابد من صفاء الابتداء، وإحسان البدايات الأولى، فإذا حسن البدء حسن الختام، ومن كانت بدايته متعبة كانت نهايته مشرقة، ولهذا قيل: "الفتور بعد المجاهدة من فساد الابتداء".
لكن قد يستعجل بعض الطامحين للمجد -مجد الإسلام- البناء فيريد أن يشب عن الطوق، وأن يتذبب قبل أن يتحصرم، والزبيب آخر مرحلة من مراحل العنب، عندها ينضج ويكون حلو المذاق سائغًا للآكلين، لكن هناك من يتعجل ويستبق الأمور -والاستعجال آفة خطيرة-، وكان الأجدر به أن يتأنى ويسير وفق البناء المتدرج، حتى ينضج ويكون زبيبًا حلو المذاق وليس حصرمًا حامضًا لاذعًا يشرق به الآكلون، و"من استعجل الشيء قبل أوانه؛ عوقب بحرمانه".
لابد أن نعي سنة التدرج، وهذا هو هدي قرآننا.. قال -تعالى-: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران:79)، وهذا ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنه- في هذه الآية فـ"الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره وكأنه يقتدي بالرب -سبحانه- في تيسير الأمور" (القرطبي، البغوي)، فعلى هذا يكون (الرباني) مأخوذ من التربية" (تفسير الرازي)، وهذه هي سنة الحياة وطبيعتها في الوصول إلى المرامي والغايات، فلا ينبغي أن نسير عكس الاتجاه، والصعود إلى أعلى يكون خطوة خطوة ودرجة درجة، فلا يتعجل المرء ويقفز الدرجتين أو الثلاث بخطوة واحدة فربما كان في ذلك هلاكه.
وتحقيق المنى وبلوغ المجد -مجد الإسلام- يكون بعد خطوات من الصبر والتأني، وصدق قول قتادة -رحمه الله-: "من حدث قبل حينه، افتضح في حينه" (الجامع لأخلاق الراوي).
ولعل هذا معنى آخر يفهم من قول أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه-: "تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا" (رواه البخاري في صحيحه تعليقًا مجزومًا به، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: وأثر عمر أخرجه ابن أبي شيبة وغيره وإسناده صحيح)، ولعل أيضًا من فقه البخاري -رحمه الله- أن يثبت هذا القول في أول "باب الاغتباط في العلم والحكمة"، فحق لمن تعلم وتفقه قبل أن يسود أن يغبط، أو أن الذي يستحق الغبطة هو صاحب العلم والحكمة لا صاحب السيادة، أو أن السيادة ثمرة من ثمار العلم، فلا سيادة قبل التعلم.
وربما أراد الفاروق أمرًا هو -عندي- بيت القصيد، وهو أن السيادة قبل بلوغ الأوان قد تحرم الإنسان من أهم صفات السيادة، وهي: العلم، والحلم، والتواضع، بل قد تمنعه السيادة قبل أوانها من الفهم والفقه والأدب والتربية والتزكية، فقد تدفعه السيادة إلى الأنفة والكبر عن التعلم فيبقى جاهلاً -جهل قلة العلم وجهل الحماقة والتهور-.
فإن الرئيس (أو المسئول) قد يمنعه الكبر أن يجلس مجلس المتعلمين، ولهذا قال مالك -رحمه الله- عن عيب القضاء: "إن القاضي إذا عزل لا يرجع إلى مجلسه الذي كان يتعلم فيه".
وقال الشافعي -رحمه الله-: "إذا تصدر الحدث فاته علم كثير"، أو قال: "تفقه قبل أن ترأس فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه"، ومثله ورد عن الثوري -رحمه الله-، وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: "من طلب الرياسة بالعلم قبل أوانه لم يزل في ذل ما بقي" (العزلة للخطابي).
فالعلم إنما يطلب لله والزلفى لديه لا للرياسة والسيادة، وقد فسر أبو عبيد قول عمر -رضي الله عنه- فقال: "معناه تفقهوا وأنتم صغار، قبل أن تصيروا سادة فتمنعكم الأنفة عن الأخذ عمن هو دونكم فتبقوا جهالاً" (غريب الحديث)، وإن لم تمنع الأنفة من التفقه منعت كثرة شواغل السيادة، فالذي يتفقه قبل السيادة ينتفع وينفع غيره، لكن الذي يسود أو يسّود قبل التفقه والتأهل، فيضر ويتضرر؛ لذلك كان يزيد بن هارون يقول: "من طلب الرئاسة في غير أوانه حرمه الله في أوانه" (الجامع لأخلاق الراوي).
فطن لذلك النعمان -رحمه الله- فلقنها تلميذه النجيب أبا يوسف، فلقد رآه فجأة يتصدّر حلقة علمية بعد أن ترك مجلس أستاذه "أبي حنيفة" فأسرع قائلاً له: "تزبّبتَ قبل أن تتحصرم"، فتأدّب أبو يوسف وعاد إلى حلقة أستاذه، ولذلك قال المأمون: "من طلب الرياسة بالعلم صغيرًا فاته علم كثير" (جامع بيان العلم).
غير أن فهم أبي يوسف وأدبه قد يغيب عن كثير فيرى أنه كيف يجلس في مجلس العلم وهو الأخ المسئول؟ فربما ينقص ذلك من قدره ويضيع من هيبته ويصرف عنه الأتباع، فيقول فلا يسمع له ويأمر فلا يطاع، وبهذا تتوقف عجلة الدعوة ويفسد العمل الجماعي، هكذا يخادع نفسه.
بل قد يتعدى الأمر عدم جلوسه لطلب العلم، ويحاول أن يرسم لنفسه صورة ويضع لنفسه منزلة هي أكبر من حجمه بكثير؛ ظنًّا منه أن ذلك لمصلحة الدعوة ومن مبادئ العمل الجماعي، ولو عوتب يومًا أو نصح أمام أحد لكانت -في ظنه- قاصمة الظهور، وما هكذا يا سعد تورد الإبل.
وكم أفسد كثيرين فهم خاطئ لقصة يوسف -عليه السلام-، وكم غرتهم الألقاب، وخدعوا بقولهم (مسئول)؟! فينتشي ويخدع عن حقيقة أمره، وهو كالطبل الأجوف، ظاهرة صوتية، جعجعة لا طحين لها.
مـا يـقـبـح عندي من ذكر أندلـس أسـماء معـتـمـد فيـها ومعـتـضـد
أسماء مملكة في غير موضعهــا كالهر يبدي انتفاخا صولة الأسد
وهذا التعجل في الترؤس والرغبة في القيادة والسيادة والافتتان ببريق الزعامة والرغبة في الوصول إلى الرئاسة خطر يضعف الإخلاص، ويحرم صاحبه من التوفيق والتسديد وعون الله له، وكان عليه أن يجتهد لـ"يكون أمره لله، وقصده طاعة الله، فإن عمل لطلب الرئاسة لنفسه وطائفته، كان ذلك حمية لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطًا" (منهاج السنة بتصرف واختصار).
فحب الرئاسة داء عضال أهلك الناس قديمًا وحديثًا فـ"هلاك من هلك من الأمم فيما سلف بحب الرياسة، وكذلك من يهلك إلى انقضاء الدهر فبحب الرياسة" (رسالة بين العداوة والحسد للجاحظ).
"إن حب الرئاسة والحرص عليهما يفسد دين المرء حتى لا يبقى منه إلا ما شاء الله" (شرح حديث: ما ذئبان جائعان)، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، لقد "أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن حرص المرء على المال والشرف إفساد لدينه ليس بأقل من إفساد الذئبين لهذه الغنم، بل إما أن يكون مساويًا وإما أكثر، يشير أنه لا يسلم من دين المسلم مع حرصه على المال والشرف في الدنيا إلا القليل.. فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا".
و"حرص المرء على الشرف أشد إهلاكًا من الحرص على المال؛ فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها، والرياسة على الناس والعلو في الأرض أضر على العبد من طلب المال، وضرره أعظم والزهد فيه أصعب؛ فإن المال يبذل في طلب الرياسة والشرف"(شرح حديث: ما ذئبان جائعان باختصار).
و"طلب الشرف والعلو على الناس بالأمور الدينية: كالعلم، والعمل، والزهد؛ أفحش وأقبح وأشد فسادًا وخطرًا؛ فذلك إنما يُطلب به ما عند الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم، والقربى منه والزلفى لديه " (السابق باختصار).
وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا ، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
إن حب الرياسة والتصدر شهوة يترتب عليها "من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله من البغي والحسد والطغيان والحقد والظلم والفتنة والحمية للنفس دون حق الله، وتعظيم من حقّره الله، واحتقار من أكرمه الله.. والرؤساء في عمىً عن هذا" (كتاب الروح باختصار).
وكان الفضيل -رحمه الله- يقول: "ما أحب أحد الرياسة إلا أحب ذكر الناس بالنقائص والعيوب ليتميز هو بالكمال، ويكره أن يذكر الناس أحدًا عنده بخير، ومن عشق الرياسة فقد تودع من صلاحه".
وما ذكره الفضيل -عليه رحمة الله- كما أنه من مفاسد حب الرياسة هو أيضًا من علاماتها؛ فالحرص على مدح النفس وبيان إنجازاتها، والغضب إن لم يذكر بالألقاب ودوام إظهار عيوب الآخرين خاصة الأقران، والحرص على النقد دونما سبب، والإصرار على الرأي علامات ومفاسد، فلنبحث جميعا في خبايا أنفسنا وزواياها، ونتحسس لماذا نحزن؟ ولما نفرح؟
"وما تتمكن الرياسات حتى يتمكن من القلب: الغفلة، ورؤية الخلق، ونسيان الحق" (صيد الخاطر)، حتى يعمي صاحبه عن قبوله، فحب الرياسة هو الذي صد هرقل عن الحق -رغم تيقنه به- فمات كافرًا، فقد سأل هرقل أبا سفيان عن صفات النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فعرف أنه رسول الله ودعا أمته لذلك؛ فلما حاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب ولم يستجيبوا نكص على عقبيه ورجع، وقال: "إِنِّي إِنَّمَا اخْتَبَرْتُ شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ فَقَدْ رَأَيْتُ مِنْكُمْ الَّذِي أَحْبَبْتُ فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ" (رواه البخاري ومسلم)، ثم استمر على كفره -نسأل الله العافية-! بل حارب الله ورسوله لما قاتل جعفر وأصحابه في غزوة (مؤتة)؛ ولذلك قيل: "ما صد عن الله مثل طلب الرفعة، ولا يفلح من شُمت منه رائحة الرياسة" وهو نفس الداء العضال الذي غلب على إبليس فأبى واستكبر وكان من الكافرين، فمن يا ترى حادي محبي السيادة وقدوتهم؟؟
كم أفسد العمل الجماعي، وكم مشكلة استعصى على الحكماء حلها، وكم دعوات توقفت كان سببها حب الرئاسة والتصدر وشهوة الميكروفونات! مشكلات دعوية عويصة ينفق الدعاة المخلصون أوقاتًا ثمينة هم وأمتهم بحاجة إليها ينفقونها في حل خلافات -في حقيقتها- تافهة ساذجة لكن غلظها ونفخ فيها حب الترؤس والتصدر، والأنفة التي أورثتها السيادة قبل التفقه.
حـب الـريـاسـة داء يحـلـق الدين ويجـعـل الحب حـربًا لـلمـحبـيـنا
يـفـري الحلاقم والأرحام يقطعها فـلا مـروءة يـبــقـي لا ولا ديـنـا
من ساد بالجهل أو قبل الرسـوخ فـلا تــراه إلا عـدوًّا لـلمـحـقـيـنـا
يـبغي ويحسد قومًا وهو دونـهـم ضـاهـى بـذلـك أعــداء الـنبـيـيـنا
وقال إسحاق بن خلف: "والله الذي لا إله إلا هو لإزالة الجبال الرواسي أيسر من إزالة الرياسة" (جامع بيان العلم باختصار)، وقديمًا قال سلفنا الأكياس: "إذا رأيت الرجل يخاصم، فهو يحب الرئاسة" (سير أعلام النبلاء).
إنها فتنة تنكشف أمامها كمائن القلوب..! لذلك كان الثوري -رحمه الله- يقول: إياك وحب الرياسة، فإن الرجل تكون الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة، وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة (حلية الأولياء). وحب الرياسة يرجع إلى حب الذات وهي شهوة تبعث على إرادة العلو والاستكبار، والكبر والعجب، فأنت "لا ترى المعجب إلا طالبًا للرياسة" (جامع بيان العلم)، فحبها والسعي إليها فيه اتكال على النفس وعجب بقدراتها وغرور بإمكاناتها، ودونك خبر عبد الرحمن بن سمرة الآتي فتأمله.
وحب الرئاسة والزعامة وحب الشهرة متقاربان، بينهما كثيرٌ من الارتباط وهي شهوة دفينة، فـ"النفس تحب الرفعة والعلو على أبناء جنسها" وتحب"المحمدة ونيل المنزلة في قلوب الخلق، وهو أمر مغروس حبه في أعماق النفس البشرية، ومتجذر داخلها"(مختصر منهاج القاصدين)، فهي "مشحونة بحب العلو والرئاسة، فتجد المرء يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه، وإنما معبوده ما يهواه وما يريده، ويكون من أطاعه أحب إليه وأعز عنده ممن أطاع الله وخالف هواه، وهذه شعبة من حال فرعون وسائر المكذبين للرسل، وإن كان عالمًا أو شيخًا أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره، وربما أبغض نظيره حسدًا وبغيًا"(مجموع الفتاوى باختصار وتصرف).
"ولذلك يعسر خروج حب الرئاسة من القلب إذا انفرد، حتى قيل: حب الرئاسة آخر ما يخرج من قلوب الصديقين، فكيف إذا انضاف إليه الهوى وانضاف إليهما دليل في ظنه شرعي على صحة ما ذهب إليه؟! فيتمكن الهوى من قلبه تمكنًا لا يمكن في العادة الانفكاك عنه" (الاعتصام بتصرف واختصار)، فإذا كان آخر ما يخرج من قلوب الصديقين والعلماء، هو حب الرئاسة فكيف بغيرهم؟...
وهذه الشهوة الخفية تجعل "همّ المرء أن يسوّد على خمسة أو عشرة أو أقل أو أكثر دون أن يُفكر بورع صادق في تبعات ذلك في الدنيا والآخرة، وتظل نفسه تحدّثه ويُمنيه هواه بها، فتراه ينسى نفسه ويلهث من أجل الوصول إليها والعض عليها بالنواجذ، ثم تجد التسابق والتنافس، بل الكيد والكذب أحيانًا للوصول إليها!" (البيان (90) مقال الصويان باختصار)، وصدق قول الفضيل: "ما من أحد أحبّ الرياسة إلا حَسَدَ وبَغَى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير" (جامع بيان العلم).
لذلك تواترت النصوص النبوية في التحذير من تمني الإمارة والسعي إليها، فنصح النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا ذر فقال له: (يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي لا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ) (رواه مسلم).
وقد مرّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بعبد الرحمن بن سمرة وهو يتوضأ فقال له: (يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لا تَسْأَلْ الإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا) (رواه البخاري ومسلم)، وفي رواية: "لا يتمنين"، والنهي عن التمني أبلغ من النهي عن الطلب" (الفتح:13/133).
وإياك أن يجول بخاطرك أن عبد الرحمن بن سمرة كان جبانًا ضعيفًا أو لا يصلح للقيادة ولا عنده مؤهلاتها.. إنه من صالحي الصحابة الأخيار وشجعانهم، فها هو يقود جيش المسلمين الذي كلف بفتح "كابل" عاصمة الأفغان، وكان حصنها من أمنع الحصون، لكنه التزم وصية النبي الكريم، فتأمل كيف صار أمره، فكما قال شعيب بن حرب:"من رضي بأن يكون ذنبًا أبى الله إلا أن يجعله رأسًا" (الجامع لأخلاق الراوي).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتْ الْفَاطِمَةُ) (رواه البخاري)، فهي محبوبة للنفس في الدنيا، ولكنها: (بِئْسَتْ الْفَاطِمَةُ) بعد الموت؛ حين يصير صاحبها للحساب والعقاب.
وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِي أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلا أَتَى اللهَ مَغْلُولاً، يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ فَكَّهُ بِرُّهُ أَوْ أَوْبَقَهُ إِثْمُهُ أَوَّلُهَا مَلامَةٌ، وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ وَآخِرُهَا خِزْيٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).
(أَوَّلُهَا مَلامَةٌ): تتوجه إليه سهام الانتقادات، (وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ): إذا نحي عن رئاسته. (وَآخِرُهَا خِزْيٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ): خزيٌ يوم القيامة بما يلقى الله -عز وجل- من عدم القيام بالمسئولية وأداء الأمانة.
فقه هذه المعاني السالفة سلف الأمة فزهدوا في الرياسة وعزفوا عنها، لكن عد وأنعم النظر في قول شعيب بن حرب السابق، فهذا سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي إِبِلِهِ فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ. فَنَزَلَ فَقَالَ لَهُ أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ فَقَالَ: اسْكُتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ) (رواه مسلم)، إنه غني النفس خفي العمل لا يطلب رئاسة ولا مناصب رغم إنه سعد بن أبي وقاص من السابقين الأولين، لكنه فقه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: (طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ إِنْ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ) (رواه البخاري)، ففيه إشارة جلية لكل ذي عينين لـ"ترك حب الرئاسة والشهرة" (الفتح).
وسيد آخر من سادات المسلمين يفقه ما تعلمه من السادات الأوائل، عمر بن عبد العزيز يبكي عدة مرات على المنبر، ويقول: يا أيها الناس، أنا أخلع نفسي ولا ألزم أحدًا بطاعة، والناس هم الذين يصرون عليه ويقولون: بلى.
فـ"على أهل العلم وطلابه المهتدين بهدي السلف أن يحذروا من شهوة الشهرة وحب الرياسة، فإنه داء فتاك ينبغي المسارعة في علاجه بالتوبة إلى الله -تعالى- وتزكية النفس ومحاسبتها" يقول الثوري رحمه الله: "الرياسة أحب إلى القراء من الذهب الأحمر"(كتاب الورع)، وكان ترك الرئاسة هي وصية بشر الحافي لما قال له رجل" أوصني قال: الزم بيتك! فترك طلب الرئاسة رئاسة"(محاضرات الأدباء).
قد يكون تمني الإمارة والسيادة معروفًا في طلاب الدنيا، لكن الغريب أن يتسرب هذا الأمر إلى طلاب الآخرة شعروا به أم لم يشعروا، خسرت الدعوة حينما تكون مغنمًا وجاهًا وشرفًا، إنه –سبحانه- أغير من أن يتم أمره بالتمكين لهذا الدين في الأرض على يد أناس عندهم شوب في الإخلاص، ويحبون الرئاسة والاستعلاء في الأرض.
وإنّ نصر الله -عز وجل- وتأييده لا يتنزل إلا على عباده المخلصين، الأخفياء الأتقياء، الذين تشرأب أعناقهم وتتطلع قلوبهم إلى النعيم المقيم، في مقعد صدق عند مليك مقتدر؛ قال الله -تعالى-: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83).
تفقهوا قبل أن تُسودوا؛ فلا سيادة تخدم الدين وتنفع الدعوة ويتسق بها العمل الجماعي إلا بعد التفقه، وكم ضر نفسه ودعوته من تصدر قبل أوانه، وترأس قبل أن يأخذ حظه من العلم والفقه والأدب وحسن الخلق وزكاة النفس أو قبل أن يأخذ حظه من مؤهلات القيادة النافعة.
"وأما من كان غير مستعمل في عمل من أعمال الدعوة، ويريد أن يطلب نوع عمل مهما صغر، أو مستعملا في عمل صغير ويريد أن يستعمل في عمل كبير لا يقاربه، فالباب ضيق أمامه، وخير له أن يتقيد بالأحاديث الواردة في المنع، حتى ولو وجد في نفسه قوة وكفاية، وخير له أن يتأنى في تحديث نفسه بالإمارة، يتأني إلى حين اكتمال فقهه ووعيه، وينفذ وصية عمر -رضي الله عنه-: "تفقهوا قبل أن تُسودوا"، ومِن بعده وصية الشافعي: "إذا تصدر الحدث: فاته علم كثير" (العوائق بتصرف واختصار)، وليعلم -قبل ذلك كله- سنة نبوية، قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّا لا نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَأَلَهُ وَلا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ) (رواه البخاري).
ولا أقصد بحال ترك العمل لدين الله والقعود عن الدعوة إليه وترك فروض الكفايات، فكل ذلك شيء، وتمني وطلب السيادة قبل أوانها أو حتى في أوانها شيء آخر، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً) (رواه البخاري)، وما شأن خالد وسعد -رضي الله عنهما- في العمل جنديًّا عنا ببعيد، ولو تأملنا كتاب ربنا كيف عمل داود عليه السلام جنديًّا قبل أن يكون قائدًا وكيف أتى النصر على يديه وهو جندي لعرفت قصدي وانكشفت لك الحقيقة وعد واقرأ بداية المقال وكتاب الروح لابن القيم،، ولن يكون قائدًا من لم يحسن أن يكون جنديًّا، إنما المقصود أن الداعية المخلص يكره -حقيقة- التصدر والإمارة والرياسة والشهرة والأضواء، ولكنه فارس الميدان إذا تعين عليه التصدر.
إن وجود هؤلاء العجلى في طلب القيادة والسيادة في الصف خاصة في ظرف مثل ظرف أمتنا الحالي خطر على الدعوة يفسد ولا يصلح، إن وجودهم في مضمار البناء والنهوض فسادٌ كبير، "والأمة الإسلامية تواجه تحديات كبيرة في كل ميدان لا يقوى على الصمود أمامها إلا الكبار من أولياء الله"، والزبيب لا يكون زبيبًا قبل أن يكون حصرمًا.
إن "الاستعجال في تقديم الشخصيات القيادية إلى معترك المواجهة مع الواقع، بدون تزويدها بالعلم والتربية والمهارات الضرورية، وبدون صقلها بالخبرات والتجارب المفيدة" اغتيال لهم واغتيال للدعوة فـ"من التهور أن تقدم الدعوة قيادات غير واعية ولا ناضجة ولا متسلحة بالعلم؛ لأن أنصاف المتعلمين والخبراء مشكلة بحد ذاتهم؛ فكيف إذا سلَّمنا لهم مفاتيح القيادة؟!"(باختصار وتصرف مقال د.أنور قاسم البيان 248)، وليس مَن التف حوله الناس أو تكاثرت حوله الأتباع أو ذاعت شهرته وعلا صيته كان مستحقًّا للصدارة والترؤس، قال المهلب بن أبي صفرة: "إن البلاء كل البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره" (البيان والتبيين).
وخطورة هذا التصدير قبل الأوان أو بالشهرة والصيت أو الأمر الواقع أو السبق دون الصدق أو غير ذلك أن يكون منهجًا يحتذى نورثه للأجيال وتتابع عليه، وكان الأجدر بنا أن نورثهم تطبيقًا صحيحًا لـمنهج: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) (آل عمران:79)، منهج البناء المتدرج، والتفقه قبل السيادة، حتى تفرز الأمة عبر تتابع الأجيال وتواصلها قادة فيهم سمات النصر، فـ"رؤية الكبار شجعانًا هي وحدها التي تخرج الصغار شجعانًا، ولا طريقة غير هذه في تربية شجاعة الأمة" (الرافعي مجلة الرسالة (94).
وسبحانك اللهم وبحمد، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفر الله العظيم وأتوب إليه.