لا يجتنى من الشوكِ العنب .. علامة في طريق المصلحين
كتبه / وائل سرحان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم أما بعد ..
إن الحديث عن شمولية الإصلاح حديث معجب وجذاب ، وتتعلق بجاذبيته جاذبية الحديث عن تنوع الأساليب وجدتها وحيوتها ، وألا تكون تقليدية .
وقد يغري الحديث عن شمولية الإصلاح أرباب الصلاح فيشتتوا همهم ويفرقوا جهودهم فيلجوا كل سبيل للخير وجدوه في طريق إصلاحهم ، سواء استطاعوا أن يلجوا ذلك الطريق بقوة وإحسان أم لم يستطيعوا ، يدفعهم إلى ذلك ظنهم بأنهم يكفيهم أنهم يحاولون الإصلاح الشمولي ويحققون الشمولية .
كما قد تنطلي على بعض الدعاة دعوى طرافة الوسائل وألا تكون تقليدية ، باستخدام كل الوسائل الممكنة - طالما كانت مباحة - في دعوتهم الإصلاحية ، حتى يصلوا إلى جماهير لا يصلون إليها بتلك الوسائل التقليدية ، وحتى يكونوا أكثر تأثيرًا في قطاعات المجتمع المختلفة ، ويعدون ذلك من عدم الجمود ومن مواكبة العصر ومن استخدام الوسائل الحديثة في الدعوة الإصلاحية .
والسؤال الذي ينبغي طرحه هو : هل كل سبيل (مباح) من سبل الخير لابد من ولوجه ، أم أن الدعوة الإصلاحية يمكن لها أن تتخير أمثل طرق الإصلاح وتتبناها ، كما ينبغي لها أن تتخير السبيل الذي تتمكن منه وتحسنه من سبل الإصلاح ، خاصة في بدايات الدعوة الإصلاحية ؟
لا يشترط لكون الدعوة الإصلاحية شمولية أن تلج كل سبل الإصلاح ، بما في ذلك تلك السبل التي لا تتمكن منها أو لا تحسنها ، خاصة إذا كان ذلك سيشتت شملها ويضعف سيرها نحو هدفها الإصلاحي الذي رأته أهم طرق الإصلاح ؛ لضعف الإمكانيات البشرية أو غير البشرية أو لوجود عوائق تعرقل سيرها نحو هدفها .
ولا يعني ذلك احتقار سبل الخير الأخرى أو عدم اعتبار كونها طرقًا للإصلاح ، إنما ذلك من التدرج الإصلاحي في التطبيق - ولا أعني التدرج في بيان العقائد والمفاهيم - ومن تحديد أولويات الإصلاح - كما سيأتي إن شاء الله - وربما قدمت لغيرها يد العون في طرق الإصلاح الأخرى التي لم تلجها ولم تتمكن هي منها.
فإذا لم تستطع دعوة إصلاحية إصلاح الجانب الاقتصادي مثلًا – على أهميته – فلتجاوزه إلى ما تستطيعه ، وربما شجعت نماذج جيدة قام به غيرها .
والوسائل تبع لذلك أيضًا ويسري عليها ذلك المعنى ، فالدعوة الإصلاحية تختار أفضل الوسائل الدعوية التي تتواءم مع أيدولوجيتها وطبيعة منهجها ، وتكون ممثلًا صادقًا لجوهرها ، وإن كانت لا تمنع غيرها من الوسائل ، وربما ساعدت أو حثت غير أبنائها للأخذ بتلك الوسائل ، لكنها تختار لنفسها وسائل بعينها ترى أنها أنجح الوسائل في الوصول إلى ما تصبو إليه من إصلاح وتتناسب معه ، ولذلك ينبغي أن تكون على وعي تام بأولوياتها الإصلاحية ، وبهدفها الإصلاحي الأهم ، وبالخط الإصلاحي الذي تبنته .
فهناك مجالات كثيرة من مجالات الحياة قد فسدت ، وعلى دعاة الإصلاح ألّا يهملوها ، لكن عليهم أن يهتموا – في بداية دعوتهم خاصة إذا تعذر الجمع أو صعب- بإصلاح أهم هذه المجالات والتي تكون بمثابة أساس الخلل ، ويكون إصلاحها قاعدة للإصلاح .
ومن أهم مجالات الإصلاح تلك المجالات التي تتعلق بالعقائد والمفاهيم ، فإصلاحها أساس وخطوة لإصلاح خلل السلوك والممارسة وعليه يترتب ، وتغييرها –كذلك - أصعب بكثير من إصلاح الخلل السلوكي العملي .
فلما جاءت دعوة الإسلام لم تجعل من أولوياتها – في بدايتها – المواجهة العملية لجريمة الربا ، وفاحشة الزنا مثلا ، وهما من مظاهر الفساد المجتمعي ومن أبرز مظاهره التي نهت عنه ؛ إنما رتبت أولوياتها وجعلت إصلاح العقائد والمفاهيم أهم هذه الإصلاحات وأولها ، فلما استقرت دعائم الإصلاح هذه ؛ أولَت الانحراف السلوكي اهتمامها وأصلحته ووضعت له نظامًا إصلاحيًّا ، لكنها نبهت على هذا الانحراف السلوكي منذ البداية ولم تسكت عنه ، غير أنها أجلت التركيز على خطته الإصلاحية العملية لحين الانتهاء من الجوانب الأهم من طرق الإصلاح ، وحتى تجمع قواها في إصلاحه ، لقد أجلت ذلك إلى أن تتمكن وتهيء وتتهيأ لإصلاحه .
ولم يكن سبب الاهتمام بهذا الجانب وتأخير التركيز على الجانب الآخر ، أن هذه العادات كانت متجذرة في مجتمع العرب ، وإصلاحها كان سيسبب صدمة مجتمعية فأخرت مواجهته ، لأن دعوة الإسلام واجهت – في بدايتها - ما هو أشد من ذلك تجذرًا وتمكنًا في عاداتهم ومجتمعاتهم ، فقد كانت هذه العقائد والمفاهيم الباطلة دينًا عند العرب يدينون به ، عقائد ومفاهيم فاسدة نشأ عليها صغيرهم ، وشاب عليها كبيرهم ، وكانوا يرونها سمة تميزهم عن العرب جميعًا ، ويرون أنها هي التي نالوا بها السيادة على غيرهم ، كما كانت سببًا لجلب أرزاقهم ، ومع كل ذلك لم تخش دعوة النبي صلى الله عليه وسلم الإصلاحية هذه العقائد وتجذر هذه المفاهيم الباطلة في مجتمع العرب .
كما أنها لم تأخر بيان قبح وفحش هذه الأمور التي أخرت إصلاحها ، منذ بداية الدعوة ، وكل ما هنالك ترتيب أولويات الإصلاح .
وترتيب أولويات الإصلاح هو ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد جاء قول جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في حديثه للنجاشي مرتِّبًا لخطوات الإصلاح وأولوياته التي فهمها من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان قوله هذا قبل نشوء المجتمع الإسلامي وقبل بداية الدولة الإسلامية في المدينة .
فلما سأله النجاشي : "ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في يهودية ، ولا نصرانية ، ولا في دين أحد من هذه الأمم؟
فقال له جعفر: أيها الملك , كنا قومًا على الشرك نعبد الأصنام , ونأكل الميتة ونستحل المحارم بعضنا من بعض , في سفك الدماء وغيرها ، لا نحل شيئًا ولا نحرمه ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف .
فكنا على ذلك ، حتى بعث الله إلينا رسولًا منا ، نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنة .
وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا ، وأمرنا بالصلاة ، والزكاة ، والصيام - فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه ، وآمنا به ، واتبعناه على ما جاء به ، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئًا ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا".
وهو كذلك ما فهمه أبو سفيان من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وترتيب أولوياته وكان وقتها لا يزال على الشرك.
فلما سأله هرقل : بماذا يأمركم؟ ، أجابه أبو سفيان قائلًا :" يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم ، ويأمرنا بالصلاة ، والزكاة ، والصدق ، والعفاف والصلة". [البخاري :(7)]
(2/4) وذلك هو منهج الأنبياء عليهم السلام أيضًا ؛ فقوم شعيب كانوا قد اشتهروا بفسادهم الاجتماعي السلوكي مع فساد الاعتقاد ، فكان لديهم من الفساد الاجتماعي السلوكي ما ذكره القرآن العظيم وجعله من سماتهم الأصيلة ، لكن شعيبًا عليه السلام رتب أولويات دعوته الإصلاحية ، فقال كما جاء في الكتاب العزيز {قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [الأعراف: 85]
فهم "كانوا مع كفرهم أهل بخس وتطفيف .. فأمروا بالإيمان إقلاعًا عن الشرك ، وبالوفاء نهيا عن التطفيف" ، فلم يهمل جانبًا من جوانب الإصلاح لكنه بدأ بأهمها .
وقد فهم منه قومه ترتيب أولوياته فرتبوها أيضًا في ردهم عليه ، قال تعالى : "قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [هود: 87]
ولنكن على ذُكْر من أن دعوة الإسلام لم تهمل في بدايتها جوانب الإصلاح الأخرى لكنها ركزت – في هذه البداية -أشد ما يكون التركيز على شيء جعلته قطب رحى الإصلاح ، ولم تهمل الأشياء الأخرى وهذا هو مكمن شمولية الإصلاح .
لقد نهت دعوة الإسلام عن الفساد المجتمعي لكنها لم تناقش تفاصيله ولم تهتم به اهتمامها بالعقائد في بداية الدعوة ، ولما صلح جانب العقيدة والمفاهيم ، وتسنت لها جوانب الإصلاح الأخرى وتمكنت منها وتهيأت أجواء إصلاحها ؛ بدأت التركيز على جوانب الفساد المجتمعي ، وبدأت التشريعات التي ترسي جوانب الإصلاح السلوكي ، وتنهى عن جوانب الفساد المجتمعي الأخرى .
أما عن وسائل الإصلاح وهي مقصود حديثنا ؛ فلا يعني كون هذه الوسيلة أو تلك مباحة - فضلًا أن تكون هذه الوسيلة مختلف في مشروعيتها - أن يتبناها المصلحون كوسيلة للإصلاح ، فقد لا تصلح أن تكون تعبيرًا عن منهجهم وهدفهم الإصلاحي ، وقد تكون لهذه الوسيلة ظلالها السيئة مجتمعيًّا – لفساد هذه المجتمعات- ، مما قد يضير صورة دعاة الإصلاح في عيون مجتمعاتهم .
فقد اتخذت دعوة النبي الإصلاحية الشعر (وتبنته) كوسيلة إعلامية تدافع بها عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته الكرام رضي الله عنهم ، وتواجه بها الإعلام المضاد ، فقال صلى الله عليه لحسان : "إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لَا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحْتَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ" ، وقال له أيضًا : «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ مَعَكَ مَا هَاجَيتهُمْ»، ولم يستخدم النبي صلى الله عليه وسلم الغناء (بصورته المباحة) مثلًا كوسيلة من وسائل الدعوة ، أو يحاول إصلاح منظومة الغناء في ذلك المجتمع ويجعله إحدى وسائل دعوته ، رغم انتشاره وتأثيره في المجتمع آنذاك .
وقد علل النبي صلى الله عليه وسلم تركه بناء الكعبة على قواعد إبراهيم بقوله لعائشة رضي الله عنها : "وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ، مَخَافَةَ أَنْ تَنْفِرَ قُلُوبُهُمْ" وفي ذلك رعايته صلى الله عليه وسلم لنظرة المجتمع للمصلحين وصورتهم في عيون مجتمعاتهم ، فقد تركه مخافة (أنْ تُنكِرَ قلوبُهم) ، أو كما بوب البخاري (باب من ترك بعض الاختيار، مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشد منه) .
فلو بنى الكعبة على قواعد إبراهيم وهو خير وصلاح لقصر فهمهم عن مقصوده ، ولظن الناس بدعوة الإسلام شرًّا وأنهم لا يعظمون البيت ، ولربما تجرئوا بعد ذلك على حرمة البيت وقداسته .
فمعرفة طبائع المجتمعات وما يعظمونه وما يستقبحونه ، ورعاية ما قد يقصر فهم الناس عنه ، ومعرفة الوسائل التي يمكن لدعاة الإصلاح الأخذ بها – لو كانت مشروعة- أو تركها مع مشروعيتها = من فقههم لدعوتهم الإصلاحية ، حتى لا يفقد الإصلاحيون بريقهم وهيبتهم وتميزهم الخلقي والروحي لدى قطاعات المجتمع ، ولا أعني بذلك استعلاء على أبناء مجتمعاتهم ، إنما محافظة على صورة المصلحين في عيون وأذهان المجتمعات ، وتلك من عدتهم للإصلاح .
وفي ترك النبي صلى الله عليه وسلم كذلك قتل بعض المنافقين رغم مشروعيته ، رعاية أيضًا لنظرة المجتمع لدعاة الإصلاح وأن تكون صورة المصلحين على الحالة التي تساعدهم على الإصلاح .
ويفهم ذلك أيضًا من قول علي رضي الله عنه: «حدثوا الناس، بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله» [البخاري ( 127)] ، ومن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم ، إلا كان لبعضهم فتنة» (مسلم)
فإذا كان في باب البيان من الترفق - أحيانًا- بالخطاب ؛ حتى لا يكذب الله ورسوله ، لقصر فهم المخاطب عن المراد ، فهو أولى أن يكون ملحوظًا عند اتخاذ الوسائل .
وقد يؤدي الانفتاح على المجتمعات التي لم يلجها المصلحون قبل ذلك حالة من السيولة في وسائل الإصلاح بل وفي أولوياتها ، لكن الانفتاح على المجتمعات لا يعني أن يغفل المصلحون هدفهم الإصلاحي وأولويات إصلاحهم ، وانتقاء وسائلهم الإصلاحية ، وينبغي أن يكون هذا الانفتاح على المجتمعات انفتاحًا في التعامل مع طبقاته المختلفة والتأثير في هذه الطبقات وإيصال الدعوة الإصلاحية إليهم ، ولا يعني ذلك الانهزامية أمام وسائل طغت في مجتمعاتهم - حتى لو كانت مباحة - لكنها تنقص من قدرهم وتفقدهم بريقهم وهيبتهم وتميزهم الخلقي والسلوكي والفكري .
الانفتاح المجتمعي يعني الانخراط وسط المجتمع والتعامل معه لإصلاحه ، فالدعاة جزء من مجتمعاتهم ، خاصة في مجتمعاتنا المسلمة ، ولا يعني الانفتاح على المجتمع الانهزام أمام وسائله ، سواء كانت هذه الوسائل محرمة أو مباحة الأصل ، لكن دخلها الفساد وأصبح الفساد سمتها المجتمعية ، وأصبح المجتمع لا ينظر إليها ولا لأصحابها إلا نظرة ازدراء .
فلما انفتح المسلمون على الحضارات الأخرى تعاملوا معها بطريقتين ، طريقة عمرية ، وطريقة من بعده ، فلما فتحت فارس والروم وعاين المسلمون من جوانب حضارتهم ، أخذ عمر رضي الله عنه ما عاد على المسلمين بالنفع وما لا يقصر فهم الناس عنه ، وما لا يزرى وينقص من صورتهم وهيبتهم ، فدون الدواوين وكتب أسماء الجند وأجرى عليهم أرزاقهم .. وكان في ذلك نفع للمسلمين .
أما من جاء بعده رضي الله عنه في غير زمن الراشدين فكان من انفتاحهم أن أخذوا منهم وسائلهم التي تتفق مع طبيعة هذه المجتمعات ، وربما كان فيها أثر من دياناتهم الوثنية أو المحرفة ، فلما فعلوا ذلك غرق المسلمون في اللهو والمجون كما فتح عليهم باب الأفكار المنحرفة .. ومن يراجع تاريخ الدولتين الأموية والعباسية والانزلاق الفكري والسلوكي والمجتمعي الحاصل من جراء الانفتاح على المجتمعات الأخرى يعلم ذلك ، وذلك مبثوث في أدب هاتين الدولتين شعرًا ونثرًا .
وكذلك من يراجع تاريخ الأندلس وانفتاحهم على وسائل المجتمعات الأوروبية وما أدى ذلك إلى انزلاق وانحلال مجتمعي سلوكي ، بل وفكري مفاهيمي أحيانًا = يعلم أن الانفتاح على الوسائل خاصة ما صارت سمتها الفساد وعلامة على أهل الفساد يعلم أهمية الاحتياط في أمر الوسائل ، خاصة ما يمكن الاستغناء عنه ولسنا في حاجة ملحة له .
والأمر نفسه في تاريخ الدولة العثمانية وحالها في مراحلها ، فمن يراجعه يجد النقطة الفارقة بين حاليها هي نقطة انفتاحها على وسائل المجتمعات الأوروبية.
ولننظر نظرة تفحص لحال بعض الدعوات التي رامت الإصلاح ، لكنها حدثت لها تلك الهزيمة النفسية أمام وسائل المجتمع المتنوعة فأرادت أن تواكب المجتمع في الوسائل (المباحة) ، وأرادت أن تأخذ بتلك الوسائل الأكثر تأثيرًا وانتشارًا في المجتمع ، مع كونها صارت سمة لأهل الفجور والفسوق ، وخرجت عن إطارها المباح إلى كونها محرمة ، لنتأمل كيف فقدوا نقاء صورتهم وهيبة دعوتهم أمام مجتمعهم ، ولم يعودوا في حس المجتمعات دعاة إصلاح ديني ، ولننظر كذلك كيف آل حال شبابهم إلى رخاوة الالتزام بتعاليم الإسلام وهديه وسننه ، الظاهرة منه وغير الظاهرة .
فالإنسان ابن مجتمعه وطبيعة المجتمع ستغلب عليه ، فكما ضغط عليه انتشار تلك الوسائل مجتمعيًّا فدفعه ذلك أن يتخذها وسيلة دعوية وظن أنها سيأخذها بضوابطها = ستضغط عليه أيضًا طبيعة تلك الوسائل الطاغية في المجتمع فربما جاراها ، فلم يفلت من شراكها إلا وقد انزلق إلى منزلة لا ترضى ، وقد شابه أربابها .
وينبغي على المصلحين أن يحذروا من تسرب بعض الظنون الخاطئة ـ والتي تعبث بصورتهم في مجتمعاتهم ، كظن أن المصلحين كغيرهم من أرباب الدنيا إذا انفتحت عليهم الدنيا نافسوها وولجوها كما ولجها غيرهم ، وذلك لمجرد أخذهم ببعض الوسائل التي لا يعهد المجتمع كونها من سمات المصلحين .
قد لا يأخذ المصلحون بوسيلة مباحة لأن لديهم ما هو أهم منها ، خاصة مع قلة (الرواحل) التي تحمل دعوة الإصلاح ، فربما كان من أثر التوجيه لأخذ وسيلةٍ ما أن يندفع الشباب إليها فتستغرقهم ، وتصرفهم عما هو أهم منها ، أو قد تنزلق بهم إلى ما لم يحمد فيتشابهون مع أهل الفجور الذين سلكوا هذه الطرق ، والتي كنا نريد نحن أن نخوضها بضوابطها .
خاصة إذا كانت هذه الوسائل براقة مجتمعيًّا ، وقد جعل المجتمع من أربابها نجومًا ، فقد تجذب إليها كثيرًا من الشباب وهم عدة المصلحين في دعوتهم ، فينبغي أن نوفر إمكانات هذه الرواحل القليلة لما هو أهم في الدعوة الإصلاحية .
أما الانفتاح العريض على الوسائل الإصلاحية ودعوى أن المصلحين قد يقدمون نموذجًا غير هذه النماذج ؛ فله وقته ، ووقته حينما تثمر دعوة الإصلاح وتستطيع أن تضبط هذه الوسائل مجتمعيًّا وتتغير صورتها لدى أفراده ، أما الآن وحال المجتمعات كما نعلم .. فكيف نجني من الشوك العنب
فكما لا يجتنى من الشوكِ العنب، فكذا لا ينزل الله الأبرار منازل الفجار. أيما طريق سلكتم وردتم على أهله" صحيح الجامع: (4575(،الصحيحة ( 2046)
فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من سلوك طريق الفجار حتى لا نرد على أهله ، وسلوك الطريق لا يعني اقتراف الآثام كما اقترفها الفجار فحسب ، إنما يعني أن ذلك قد يكون في نهاية الطريق ومآله وليست بدايته .
للمصلحين وسائلهم وطرقهم ولغيرهم وسائلهم وطرقهم "فمن سلك طريق أهل الله ورد عليهم فصار من السعداء ومن سلك طريق الفجار ورد عليهم فصار من الأشقياء"
لا يجتنى من الشوك العنب فعلى افتراض ضعف الحديث فقد اعتبره العقلاء مثلًا يضرب لمن يحاول إصلاح شخص سيء التربية ، وكذلك إصلاح وسيلة عرفت ابتداء عند أهل الكفر أو أهل الفجور والفساد .
ربما سيطرت على بعض المصلحين فكرة (البدائل الإسلامية) أو (البدائل المنضبطة) ، ونحن لم نكلف بهذا على سبيل الإطلاق ، فلم تنشغل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بإيجاد صورة للغناء المباح بدلًا مما كان موجودًا في المجتمع ، ولم تجهد نفسها في إيجاد مشروب حلال بدلا من الخمر ، كما أن الإشكال الحقيقي أن طبيعة تلك البدائل أنها تستغرق من يلجها حتى ينسى معها هدفه ، والأصل الذي بنيت عليه .
وهذا – بلا شك - لا يمنع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما أمكن ذلك .
ربما حدثت هزيمة نفسية لبعض دعاة الإصلاح بسبب اختيارات فقهية لوسائل دعوية ثبت خطؤها بعد تطور الأحداث والأزمان ، فأحدث لهم ذلك حالة من سيولة الانفتاح وسيولة الوسائل دون نظر إلى صورة المصلحين في أعين الناس .. لا ضير في أن يخطئ الإنسان في اختيار فقهي ، ويعود إلى ما رآه حقًّا وصوابًا ، وينبغي أن يكون ذلك مبنيًّا على نظر واجتهاد وليس فقط ضغط الواقع والانفتاح على المجتمعات .
وربما كان الخطأ الحقيقي هو قلة اطلاع بعض الدعاة على مسائل الخلاف ، أو كان الخلل في طريقة تبني الآراء ، أو طريقة توجيه الأتباع ، وليس في الاختيار الفقهي ذاته.
فينبغي ألا يدفعنا ذلك إلى هدم المنهج الإصلاحي أهداف ووسائل ، وألا يسبب ذلك هزيمة نفسية للدعاة ، تدفعهم للانفتاح غير المبرر على وسائل تنقص من هيبتهم لدى مجتمعهم ، وتفقدهم مكانتهم.
أما عن الخطأ في بعض الاختيارات الفقهية فلنا في الشافعيّ أسوة في ذلك ، إنه لما جاء إلى المجتمع المصري تغيرت اجتهاداته حتى عُد ما كان قبل نزوله مصر مذهبًا قديمًا ، وما كان بعد نزوله إياها مذهبًا جديدًا ، فلا ضير أن يظهر للفقيه ما يجعله يغير اجتهاده أو يقيد ما أطلقه أو يخصص ما كان عنده عامًّا ونحو ذلك ، لكن له في الشافعي أسوة ، هو أن يكون عن اجتهاد ونظر وظهور أدلة ، وليس ضغطًا من الواقع عليه . والحمد لله رب العالمين .
كتب في أغسطس 2015 م.