الصوفية.. رؤية من الداخل (18) التَّصَوُّف في العصر الحديث
كتبه/ إمام خليفة
الحمد لله وكفى , وسلام على عباده الذين اصطفى لا سيما عبده المصطفى ,
وآله المستكملين الشرفا, وبعد..
تكلمنا في المقال السابق عن التَّصَوُّف في العصر العثماني
وسماته،واليوم بإذن الله تعالى نتكلم عن: التَّصَوُّف
في العصر الحديث.
أولا: عرف السلاطين العثمانيون بولائهم للإسلام وحبهم له، ولكن غلب
على متأخريهم التمسك بالتقليد، وقفل باب الاجتهاد، واتخذوا المذهب الحنفي مذهبًا
ملزمًا للأئمة، ومالوا إلى مناصرة مشايخ الصُّوفيَّة اعتقادًا في صلاحهم، ولمَّا
رأوه من استمالتهم للعوام تارة، ومراعاة لنفوذهم وجاههم تارة أخرى؛ لذا صار للطرق
الصُّوفيَّة منزلة عالية وكثرت الطرق وانتشرت مع مخالفة بعضها البعض فصار لكل شيخ
طريقة، ولكل منهج تعاليمه وأذكاره، وأتباع كل طريقة لا يعتقدون إِلَّا فيها، ولا
يتقيدون إِلَّا ببيعتهم، فلا يخرجون عنها ألبتة، وقد شهد القرنان الثَّامن والتاسع
عشر ظاهرة انتعاش التَّصَوُّف من خلال نشاط أتباعه، فقد أسسوا طرقًا جديدة وفرقًا
جديدة.
فظهرت آلاف الطرق الصُّوفيَّة، وانتشرت العقيدة الصُّوفيَّة في الأمة،
واستمر ذلك إلى عصر النهضة الإسلامية الحديثة، ولكن الله هيَّأ للأمة في القرن الثَّاني عشر الهجري الإمام محمد بن
عبدالوهاب الذي تتلمذ على كتب شيخ الإسلام فقام مصاولًا هذا الباطل الذي عمَّ
الآفاق وقد حقق الله على يديه ظهور النهضة الإسلامية الحديثة.
ثانيًا: مشيخة الطرق الصُّوفيَّة:
في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي أصبح للطرق الصُّوفيَّة مشيخة عامة
لصاحبها التكلم عن جميع الطرق، وهو شيخ مشايخ الطرق الصُّوفيَّة، واستصدرت لائحة لهم
عام 1905م، وهو الذي يدير شؤون الصُّوفيَّة بواسطة مجلس يختص بشؤون الطرق، وكان
أول رئيس لها محمد توفيق البكري 1892، وحاولت في بدايتها الابتعاد عن الغلو الصوفي
الفلسفي من القول بالاتحاد والحلول، أو افتعال الخوارق وغيرها، أو القول بسقوط
التكاليف فقد صدرت لائحة بإبعاد كل من اتصف بعقائد مخالفة للشرع كالقول بالحلول،
والاتحاد ولكن في الحقيقة هذا الإجراء لم يكن له أثر على أرض الواقع فأين التبرؤ
من أصحاب هذه المعتقدات مثل الحلاج، وابن عربي، والبسطامي، والسُّهْرَوَرْدي، وابن
الفارض، فأصحاب هذه الدعوات لم يجمعوا بين القول والعمل فما زال في أقوالهم
وأعمالهم ما يفيد تبنيهم لمصطلحات التَّصَوُّف الفلسفي، وخاصة في الآونة الأخيرة.
ومن أهم ما تتميز به القرون المتأخرة: ظهور ألقاب شيخ السجادة، وشيخ
مشايخ الطرق الصُّوفيَّة، والخليفة والبيوت الصُّوفيَّة التي هي أقسام فرعية من
الطرق نفسها مع وجود شيء من الاستقلال الذاتي يمارس بمعرفة الخلفاء، كما ظهرت فيها
التنظيمات والتشريعات المنظمة للطرق تحت مجلس وإدارة واحدة الذي بدأ بفرمان أصدره
محمد علي باشا والي مصر يقضي بتعيين محمد البكري خلفًا لوالده شيخًا للسجادة
البكرية، وتفويضه في الإشراف على جميع الطرق، والتكايا، والزوايا، والمساجد التي
بها أضرحة، كما له الحق في وضع مناهج التعليم التي تعطى فيها، وذلك كله في محاولة
لتقويض سلطة شيخ الأزهر وعلمائه، وقد تطورت نظمه وتشريعاته ليعرف فيما بعد بالمجلس
الأعلى للطرق الصُّوفيَّة في مصر.
من أشهر رموز القرون المتأخرة:
1- عبد الغني النابلسي (1050-1143هـ) ـ هو عبد الغني بن إسماعيل بن
عبد الغني النابلسي: شاعر، أديب، مكثر من التصنيف، متصوف. ولد ونشأ في دمشق. ورحل
إلى بغداد، وعاد إلى سورية، فتنقل في فلسطين ولبنان، وسافر الى مصر والحجاز،
واستقر في دمشق، وتوفي بها. له مصنفات كثيرة ، منها " الحضرة الأنسية في
الرحلة القدسية - " تعطير الأنام في تعبير المنام - "
2- أحمد التيجاني (ت1230هـ ) هو أبو العباس أحمد بن محمد بن المختار
ابن أحمد بن محمد سالم التيجاني، وقد عاش ما بين (1150-1230هـ) (1737- 1815م)،
وكان مولده في قرية عين ماضي من قرى الصحراء بالجزائر حاليًّا، درس العلوم
الشرعية، وارتحل متنقلًا بين فاس، وتلمسان، وتونس، والقاهرة، ومكة، والمدينة،
ووهران، أنشأ طريقته عام (1196هـ) في قرية أبي سمغون، وصارت فاس المركز الأوَّل
لهذه الطريقة، ومنها خرجت الصوفية لتنتشر في أفريقيا بعامة، ويعد من أبرز آثاره
التي خلَّفها لمن بعده زاويته التيجانية في فاس، وكتابه جواهر المعاني، وبلوغ
الأماني في فيض سيدي أبي العباس التيجاني الذي قام بجمعه تلميذه على حرازم.
3- محمد عثمان الميرغني( ت1268هـ) مؤسس الطريقة الختمية. : محمد
عثمان بن محمد أبو بكر بن عبد الله الميرغني المحجوب ويلقب (بالختم) إشارة إلى أنه
خاتم الأولياء، ومنه اشتق اسم الطريقة الختمية، وُلد محمد عثمان الميرغني (الختم)
بمكة عام 1208هـ/1833م، وتلقَّى العلوم الشرعيَّة على يد علمائها، وغلب عليه
الاهتمام بالتصوف شأن أفراد أسرته جميعًا، فانخرط في عدة طرق: القادرية، الجنيدية،
النقشبندية، الشاذلية، وطريقة جدِّه الميرغنية، كما تتلمذ على الشيخ أحمد بن إدريس
وأخذ تعاليم الطريقة الإدريسية ومن هذه الطرق جميعًا استمد تعاليم الطريقة بعث
الميرغني بأبنائه إلى عدة جهات: جنوب الجزيرة، ومصر، والسودان للدعوة للطريقة
الختمية ونشرها. تبنوا فكرة وحدة الوجود التي نادى بها من قبل محيي الدين بن عربي
وتلامذته، وقالوا بفكرة النور المحمدي، والحقيقة المحمدية، وعبّروا عن ذلك نظمًا
ونثرًا، وبسطوها لأتباعهم في مدائحهم، ومناجاتهم، وأذكارهم، وأورادهم، واستخدموا
مصطلحات الوحدة والتجلي والظهور والفيض وغيرها من المصطلحات الفلسفية الصُّوفيَّة،
واستشهدوا بما استشهد به أصحاب هذه النظريات من آيات أوّلوها، وأحاديث وضعوها
وأفكار انتحلوها.
إلى هنا ينتهي حديثنا عن التَّصَوُّف في العصر الحديث على أن يكون
حديثنا في المرة القادمة إن شاء الله تعالى حول الطرق الصوفية.