الصوفية.. رؤية من الداخل
(12) التصوف في القرن الثالث سماته وأهم رموزه
كتبه /إمام خليفه
الحمد لله وكفى , وسلام على عباده
الذين اصطفى لا سيما عبده المصطفى , وآله المستكملين الشرفا, وبعد..
تكلمنا في المقالات السابقة عن
نشأة التصوف وأقسام التصوف واليوم بإذن الله تعالى نتكلم عن التصوف من حيث
التطور التاريخي وأول ما نبدأ به هو الحديث عن التصوف في القرن الثالث سماته وأهم رموزه
مقدمة: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهد خلق الله في الدنيا وزخارفها , وأصحابه على
سيرته وطريقته , يعدّون الدنيا وما فيها لهوا ولعبا , زائلة فانية , والأموال
والأولاد فتنة ابتلي المؤمنون بها , فلم يكونوا يجعلون أكبر همهم إلا ابتغاء مرضاة
الله , يرجون لقاءه وثوابه , ويخافون غضبه وعقابه , آخذين من الدنيا ما أباح الله
لهم أخذه , ومجتنبين عنها ما نهى الله عنه , سالكين مسلك الاعتدال , منتهجين منهج
المقتصد , غير باغين ولا عادين , مفرطين ولا متطرفين , وعلى ذلك سار الخلفاء
الراشدون ,والصحابة المرضيون وتبعهم في ذلك التابعون لهم بإحسان , وأتباع التابعين
, أصحاب خير القرون , المشهود لهم بالخير والفضيلة , ولم يكن لهؤلاء كلهم في غير
رسول الله أسوة ولا قدوة والذي إذا وجد طعاما فأكل وشكر , وإذا لم يجد فرضي
وصبر , وأحب لبس الثياب البيض , واكتسب جبّة رومية , ونهى عن التصدق بأكثر من ثلث
المال , وأمر بحفظ حقوق النفس والأهل والولد , ونهى عن تعذيب النفس واتعاب الجسد
والبدن , وحرّص متبعيه على طلب الحلال , وطلب الحسنات في الدنيا والآخرة , ومنع
الله تعالى من التعنت والتطرف في ترك الدنيا وطيباتها في آيات كثيرة في القرآن
الكريم مثل قوله تعالى (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك)
وقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ) ثم خلف من بعدهم خلف
فتطرفوا , وذهبوا بعيدا في نعيم الدنيا وزخارفها , وفتحت عليهم أبواب الترف
والرخاء , ودرّت عليهم الأرض والسماء , وأقبلت عليهم الدنيا بكنوزها وخزائنها ,
وفتحت عليهم الآفاق فانغمسوا في زخارفها وملذاتها , وبخاصة العرب الفاتحون الغزاة
, والغالبون الظاهرون , فحصل ردّ الفعل , وفي نفوس المغلوبين المغزوين والمقهورين
, من الموالي والفرس والمفلسين وأصحاب النفوس الضعيفة المتوانية خاصة , فهربوا عن
الحياة ومناضلتها , وجدّها وكدّها , ولجأوا إلى الخانقاوات والتكايا والزوايا
والرباطات , فرارا من المبارزة والمناضلة , وصبغوا هذا الفرار والانهزام وردّ
الفعل صبغة دينية , ولون قداسة وطهارة , وتنزه وقرابة , كما كان هنالك أسباب
ودوافع ومؤثرات أخرى , وكذلك أيدي خفية دفعتهم إلى تكوين فلسفة جديدة للحياة ,
وطراز آخر من المشرب والمسلك , وأسلوب جديد للعيش والمعاش , فظهر التصوف بصورة
مذهب مخصوص , وبطائفة مخصوصة اعتنقه قوم , وسلكه أشخاص ساذجون بدون تفكير كثير ,
وتدبر عميق كمسلك الزهد , ووسيلة التقرب إلى الله , غير عارفين بالأسس التي قام
عليها هذا المشرب , والقواعد التي أسس عليها هذا المذهب , بسذاجة فطرية , وطيبة
طبيعية , كما تستر بقناعه , وتنقب بنقابه بعض آخرون لهدم الإسلام وكيانه , وإدخال
اليهودية والمسيحية في الإسلام , وأفكارهما من جانب , والزرادشتية والمجوسية
والشعوبية من جانب آخر , وكذلك الهندوكية والبوذية والفلسفة اليونانية الأفلاطونية
من ناحية أخرى , وتقويض أركان الإسلام وإلغاء تعاليم سيد الرسل صلى الله عليه وسلم
, ونسخ الإسلام وإبطال شريعته بنعرة وحدة الوجود , ووحدة الأديان , وإجراء النبوة
, وترجيح من يسمى بالولي على أنبياء الله ورسله , ومخالفة العلم , والتفريق بين
الشريعة والحقيقة , وترويج الحكايات والأباطيل والأساطير , باسم الكرامات والخوارق
وغير ذلك من الخلافات والترهات.
فلم يظهر
التصوف مذهبا ومشربا , ولم يرج مصطلحاته الخاصة به , وكتبه , ومواجيده وأناشيده ,
تعاليمه وضوابطه , أصوله وقواعده , وفلسفته , ورجاله وأصحابه إلا في القرن
الثالث من الهجرة وما بعده. وقد سبق كلام شيخ الاسلام ابن تيمية حيث قال: (إن لفظ
الصوفية لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة , وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك). وبمثل
ذلك قال ابن خلدون وغيره.
فخلاصة
الكلام أن الجميع متفقون على حداثة هذا الاسم , وعدم وجوده في عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالحين.
سماته: بدأ
التَّصَوُّف يخوض في النواحي العقدية والغيبيات، وأصبحت الغاية من الزهد هي
الارتقاء بالنفس للوصول بالمجاهدة النفسية إلى المعرفة الحقيقية، واتجهت أفكارهم
إلى التعمق في النفس لكشف أسرارها، والكلام عن معانٍ لم تكن معروفة من قبل
كالمقامات، والعشق، وَالْوَجْدُ يقول معروف الكرخي (200هـ) التَّصَوُّف: الأخذ
بالحقائق، واليأس مما في أيدي الخلائق
وقد
تميَّز بما يلي:
(1) نمو
الحركة العلمية الصوفية نموًا كبيرًا، وبدأ يتحول من مجرد التصوف السلوكي إلى
التصوف شبه الفلسفي.
(2) ازدياد
حدة الصراع الفكري ووضوحه بنمو العلوم المختلفة التي تبنتها أطراف الصراع، وتدخل
العوامل السياسية المختلفة من شعوبية وغيرها، وحرب الملل والمذاهب المنحرفة
للإسلام.
(3) دخول
عامل الفلسفة إلى حلبة الصراع الفكري، وخاصة الفلسفة اليونانية، وقد نتج عن هذا
انضمام الفلسفة إلى علم الكلام، وعلم التَّصَوُّف، وفكر الشيعة، وفكر الخوارج،
الأمر الذي نتج عنه تأثير خطير في التكوينات السياسية والدينية.
(4) هذا
القرن يحتل مكان الصدارة زمنيا في مقدمة القرون: الثَّالث، والرَّابع، والخامس،
والتي تميَّزت بالازدهار العلمي والحضاري، مما جعل منها العصور الذهبية في التصوف
الإسلامي.
(5) القرن
الثَّالث الهجري - أكبر مدة نمت وتطورت فيه الأفكار الصُّوفيَّة، ففي أوله
شهد نموًا للأفكار التي راجت في النصف الثَّاني من القرن الثَّاني الهجري. فشهد
مرحلة الانتقال والتطور للتصوف من الزهد والرهبنة والتنسك إلى القول بالاتحاد والحلول
وبين الحالتين كان مذهب الحب الإلهي، وفي أواسط هذا القرن بدأت تتسرب
فكرة وحدة الوجود إلى التَّصَوُّف، ومن ثمَّ إلى عقيدة الحلول.
وفي آخره تبلورت
تلك الأفكار وتطورت لتصبح مذهبًا عقائديًا جديدًا لم يعرفه المسلمون من قبل وصار
له أتباع ومريدون وقد راجت فيهم نزعات وحدة الوجود والحلول والاتحاد، ولم يظهر مذهب الاتحاد والحلول على صورته الكاملة إِلَّا
على يد ابن عربي في القرن السابع الهجري
من
البارزين في التَّصَوُّف في هذا القرن:
1-
الجنيد( 298 هـ).يعتبر الإمام أبو القاسم الجنيد في
مجال التصوف من أهم الشخصيات بما قدمه من مصطلحات المقامات والأحوال التي قام
بتعريفها، كما تحدث عن كثير من تفصيلاتها وأهم دقائقها. كما أسهم بطريقة فعالة في
تحديد طريق التصوف
2- ذو
النون المصري(245 هـ). هو ذو النون المصري واسمه
ثوبان بن إبراهيم وقيل الفيض بن إبراهيم وأبوه كان نوبيًا توفي سنة خمس وأربعين
ومائتين
3- أبو يزيد البسطامي (261هـ) فارسي، وكان جده مجوسيًّا، وحكى أَبُو حامد الغزالي عَنْ
أبي يَزِيد أنه قَالَ دعوت نفسي إِلَى اللَّه D فجمحت فعزمت عليها أن لا أشرب الماء
سنة ولا أذوق النوم سنة فوفت لي بذلك. وفي نهاية المطاف اعتنق الحلول والاتحاد
وقال: (هو أنا وأنا هو وهو هو) وقال أيضًا: (سبحاني سبحاني ما أعظم شاني).
إلى هنا
ينتهي حديثنا عن الكلام حول التصوف في القرن الثالث وسماته وأهم رموزه على
أن نكمل حديثنا في المقال القادم إن شاء الله تعالى حول التَّصَوُّف
في القرن الرَّابع وسماته، وأهم رموزه إن شاء الله تعالى.