الصوفية رؤية من الداخل (28) أثر النصرانية على الصوفية

الصوفية رؤية من الداخل (28) أثر النصرانية على الصوفية
الخميس ٢١ ديسمبر ٢٠٢٣ - ١٠:٠٠ ص
193

 الصوفية رؤية من الداخل (28) أثر النصرانية على الصوفية

كتبه / إمام خليفه                                

الحمد لله وكفى , وسلام على عباده الذين اصطفى لا سيما عبده      المصطفى , وآله المستكملين الشرفا, وبعد..

سوف نتكلم اليوم بإذن الله تعالى عن :  أثر الديانات والمذاهب الأخرى في الصُّوفيَّة ونبدأ بـ أثر النصرانية في الصوفية:-

 

تسرب التَّصَوُّف إلى بلاد المسلمين متأثرا بالديانات الأخرى كالديانة الهندية، والرهبانية النصرانية،وباقي الديانات الأخرى ولأن فكرة التصوف في أصلها خارجة عن بلاد الإسلام فإذا فتشت فيه ستجد برهمية، وبوذية، وزرادشتية، ومانوية، تجد أفلاطونية، وغنوصية، تجد فيه يهودية، ونصرانية، ووثنية جاهلية.

أ- أثر النصرانية في الصُّوفيَّة:

لقد شغف عدد من الصُّوفيَّة بما في النصرانية من الأوضاع التعبدية، فعدلوا عن ما في دين الله الخاتم الذي هو خير إلى الذي هو أدنى، وقد بلغ الحال من بعضهم إلى تصحيح مسلك الرهبان، وهذا بلا شك إقرار للكفر وتصحيح مذهب أهله.

يقول عبد الكريم الجيلي في كتابه الإنسان الكامل: أما النصارى فإنهم أقرب لجميع الأمم الماضية إلى الحق فهم دون المحمدين، وسببه أنهم طلبوا الله -تعالى- فعبدوه في عيسى، ومريم، وروح القدس، ثُمَّ قالوا: بعدم التجزئة، ثُمَّ قالوا: بقدمه على وجوده في محدث عيسى، وكل هذا تنزيه في تشبيه لائق بالجانب الإلهي، لكنهم لما حصروا ذلك في هؤلاء الثلاثة نزلوا عن درجة الموحدين، غير أنهم أقرب من غيرهم إلى المحمديين؛ لأنَّ من شهد الله في الإنسان كان شهوده أكمل من جميع من شهد الله من أنواع المخلوقات.

وقال الشعراني: عن أحد معاصريه كان أكثر نومه بالكنيسة، وكان يرى بطلان صوم المسلمين وأن الصيام يقع حقيقة على صوم النصارى يقول: أنا ما عندي من يصوم حقيقة إلا من لا يأكل اللحم الضاني أيام الصوم كالنصارى، وأما المسلمون الذين يأكلون اللحم الضاني، والدجاج أيام الصوم فصومهم عندي باطل.

ومن صور التأثر بالنصرانية ما يأتي:

1-    ترك الزواج فقد زهد فيه كثير من الصُّوفيَّة وهذا لا يفعله إِلا الرهبان:

قال إبراهيم بن أدهم: >إذا تزوج الفقير (الصوفي) فمثله مثل رجل قد ركب السفينة، فإذا ولد له ولد غرق

قال الغزالي >ينبغي للمريد ألا يشغل نفسه بالتزويج؛ لِأنَّهُ يشغله عن السلوك، ويأنس بالزوجة ومن أنس بغير الله شغل عن الله<،

قال السُّهْرَوَرْدي: التزوج انحطاط من العزيمة إلى الرخص والتفات إلى الدنيا وانعطاف على الهوى

وقد أدَّى ترك الزواج إلى مصاحبة الأحداث.

قال يوسف بن الْحُسَيْن: رأيت آفات الصُّوفيَّة فِي صحبة الأحداث ومعاشرة الأضداد ورفق النسوان.

 

ويروى أنَّ نصراني قطع ذكره ففعل مثله الصوفي .

قال ابن الجوزي: فأما جماعة من متأخري الصُّوفيَّة فإنهم تركوا النكاح ليقال زاهد والعوام تعظم الصوفي إذا لم تكن لَهُ زوجة فيقولون: مَا عرف امرأة قط فهذه رهبانية تخالف شرعنا، قال أَبُو حامد: ينبغي أن لا يشغل المريد نفسه بالتزويج فإنه يشغله عَنِ السلوك ويأنس بالزوجة ومن أنس بغير اللَّه شغل عَنِ اللَّه -تعالى-، وإني لأعجب من كلامه أتراه مَا علم أن من قصد عفاف نفسه ووجود ولد أَوْ عفاف زوجته فإنه لم يخرج عَنْ جادة السلوك أَوْ يرى الأنس الطبيعي بالزوجة ينافي أنس القلوب بطاعة اللَّه -تعالى-، وَاللَّه -تعالى- قد منَّ على الخلق بقوله: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة)[الروم: 21]. وفي الحديث الصحيح عَنْ جابر رضي الله عنهعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: «هَلَّا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ»، وما كان بالذي ليدله عَلَى مَا يقطع أنسه بالله -تعالى- أترى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لما كان ينبسط إِلَى نسائه ويسابق عائشة J أكان خارجا عَنِ الأنس بالله هذه كلها جهالات بالعلم .

٢- لبس الصوف (لبس الصوف من أثر الرهبانية في الصُّوفيَّة):

قدم حماد بن أبي سليمان البصرة فجاءه فرقد السبخي وعليه ثوب صوف فقال له حماد ضع عنك نصرانيتك هذه فلقد رأيتنا ننتظر ابراهيم يعني النخعي فيخرج علينا وعليه معصفرة.

قال ابن سيرين: إنَّما قوم يتخيرون الصوف يقولون نتشبه بلبس ابن مريم وهدي نبينا أحب إلينا >وكان صلى الله عليه وسلم يلبس القطن وغيره، وهذا يدل على أن التَّصَوُّف تسرب إلى بلاد المسلمين من الديانات الأخرى كالديانة الهندية، والرهبانية النصرانية<.

٣-اتخاذهم التكايا والزوايا فيها شبه بالأديرة:

 وأما الجلوس في الخانقاوات، وملازمة الربط والتكايا والزوايا فهو من لوازم التَّصَوُّف، فإن الصُّوفيَّة خصصوا أبوابًا مستقلة في كتبهم لبيان فضائل ملازمتها، والمكوث فيها، كما أنهم بيّنوا فيها آداب الخلوة والدخول إليها والمكوث فيها.

كما قال السُّهْرَوَرْدي: >اعلم أن تأسيس هذا الربط من زينة هذه الملة الهادية المهدية، ولسكان الربط أحوال تميزوا بها عن غيرهم من الطوائف، وهم على هدى من ربهم<.

 

وقد جعلوا للدخول في الخلوة آدابًا وشروطًا، منها:

1. أن يستأذن الشيخ في دخول الخلوة.

2. أن يدخل الشيخ الخلوة ويصلي فيها ركعتين قبل دخول المريد.

3. أن يدخلها كما يدخل المسجد مقدّما رجله اليمنى، مبسملًا متعوذًا.

4. أن تكون الخلوة مظلمة لا يدخلها شعاع الشمس ولا ضوء النهار.

5. أن لا يستند إلى جدار الخلوة.

6. الصوم.

7. أن يعتقد في نفسه أنَّه إنما يدخل الخلوة لكي يستريح الناس من شره.

8. أن لا يتكلم مع أحد في الخلوة أو خارجها إِلَّا مع شيخه.

9. إذا خرج إلى الصلاة أو الوضوء فليغطِّ رأسه ورقبته بشيء مطرقًا إلى الأرض غير ناظر إلى أحد.

10. دوام تخيل صورة شيخه، وهو الرابطة بينه وبين خالقه.. فإنه إذا همّ بمعصية يتمثل له الشيخ فينزجر عن فعلها - إلى آخر الكلام<.

4-ومما يدل على تأثر بعض الصُّوفيَّة بالنصرانية استعمالهم كلمات النصرانية ككلمة اللاهوت والناسوت على نحو ما عند الحلاج ، وهما اصطلاحان أخذهما عن المسيحيين السريان الذين استعملوهما للدلالة على طبيعة المسيح. وقد سمى نفسه مسيح المسلمين. فيقول:

سبحان من أظهر ناسوته

 

 سر سنا لاهوته الثاقب

يقول التفتازاني: وَمِنْهُم من قَالَ ظهر اللاهوت بالناسوت كَأن يظْهر الْملك فِي صُورَة الْبشر كبعض غلاة الشِّيعَة الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع ظُهُور الروحاني بالجسماني كجبرائيل فِي صُورَة دحْيَة الْكَلْبِيّ وكبعض الْجِنّ أَو الشَّيَاطِين فِي صُورَة الأناسي وَلَا يبعد أَن يظْهر الله -تعالى- فِي صُورَة بعض الكاملين وَأولى النَّاس بذلك عَليّ I وَأَوْلَاده المخصوصون الَّذين هم خير الْبَريَّة، فَلهَذَا كَانَ يصدر عَنْهُم فِي الْعُلُوم والأعمال مَا هُوَ فَوق الطَّاقَة البشرية وكبعض المتصوفة الْقَائِلُونَ بِأَن السالك إِذا أمعن فِي السلوك وخاض مُعظم لجُّة الْوُصُول فَرُبمَا يحل الله فِيهِ -تعالى- عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوًا كَبِيرًا .

و يشهد لما سبق:كلام بعض المستشرقين حول تأثر الصوفية بالنصرانية

أ- ما ذكره عمر فروخ عن (ماسنيون) الذي جعل همَّه دراسة (التَّصَوُّف المتطرف) و خاصة فيما يتعلق (بالحلَّاج)، الذي كان أشد الناس عداوة للإسلام وأشد عداء للمسلمين من الكفَّار: فقد ادَّعى الألوهيَّة فقتله العباسيون بذلك، ولكن أتباعه قالوا: إنَّه لم يمت ولكن (شبهه) ألقي على غيره، فقتل العباسيون شبهه هذا ولم يقتلوه هو (تشبيهًا بالمسيح). ويقول  أيضًا: (ولَمَّا أصدرت كتابي (التَّصَوُّف في الإسلام) في طبعته الأولى (1366 هـ - 1874 م) ثُمَّ زار (ماسنيون) بيروت عاتبني على ما كتبته عامَّة وخاصة، فلم أبدل رأيي في الضرر الذي أصاب المسلمين من حركة التَّصَوُّف المتطرف والتصوف المعتدل  أيضًا<، مِمَّا يدل على الاهتمام البالغ من لدن (ماسنيون) بهذا الجانب ومحاولته إبرازه وترسيخه في واقع المسلمين، واعتبر بعض المستشرقين دخول التيارات النصرانية في الطرق الصُّوفيَّة، أن هذا تأثرًبالروحانية في الديانة النصرانية ؛ يقول أحد المستشرقين >إنَّ الحركة التي غيرت صورة الإسلام في أثناء القرنين الثَّالث والرابع ليست في مجموعها سوى نتيجة لدخول التيارات الفكرية النصرانية في دين محمد صلى الله عليه وسلم <. ويقول آخر >إنَّ المنهج الصوفي بكل جوانبه الروحيَّة مستمد من النصرانية<.

4- التجرد التام عن الدنيا وترك إعطاء النفس حظها مما شرعه الله:

 فقد تجد من يُعرف الصُّوفيَّة: بأنَّها نبذ الدنيا كلها

مثل ما روى أبونعيم الأصبهاني عن رَبَاحُ بْنُ عَمْرٍو الْقَيْسِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ دِينَارٍ، يَقُولُ: «لَا يَبْلُغُ الرَّجُلُ مَنْزِلَةَ الصِّدِّيقِينَ حَتَّى يَتْرُكَ زَوْجَتَهُ كَأَنَّهَا أَرْمَلَةٌ وَيَأْوِي إِلَى مَزَابِلِ الْكِلَابِ»: وعن عبد الواحد بن زيد قال: مررت براهب فسألته منذ كم أنت في هذا الموضع؟ قال: منذ أربع وعشرين سنة، قلت: من أنيسك؟ قال: الفرد الصمد، قلت: ومن المخلوقين؟ قال الوحش، قلت: فما طعامك؟ قال: ذكر الله، قلت: ومن المأكولات، قال ثمار هذه الأشجار ونبات الأرض، قلت أفلا تشتاق إلى أحد؟ قال: نعم، إلى حبيب قلوب العارفين؟ قلت: ومن المخلوقين؟ قال: من كان شوقه إلى الله E كيف يشتاق إلى غيره؟ قلت: فلم اعتزلت عن الخلق؟ قال: لِأَنَّهُم سراق العقول، وقطاع الطريق، طريق الهدي، قلت: ومتى يعرف العبد طريق الهدي؟ قال: إذا هرب إلى ربه من كل شيء سواه، واشتغل بذكره عما سواه.

إلى هنا ينتهي حديثنا حول أثر النصرانية في الصوفية ونكمل حديثنا في المرة القادمة حول أثر المذاهب الهندية في الصوفية.

 

 

أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم

الكلمات الدلالية