الصوفية.. رؤية من الداخل (25) دَعوَى رُؤيَةِ النَّبِيِّ H يَقَظَةً بَعدَ وَفَاتِه وَالتَّلَقِّي عَنهُ مُبَاشَرَةً عند الصوفية

الصوفية.. رؤية من الداخل (25) دَعوَى رُؤيَةِ النَّبِيِّ H يَقَظَةً بَعدَ وَفَاتِه وَالتَّلَقِّي عَنهُ مُبَاشَرَةً عند الصوفية
الخميس ١٩ أكتوبر ٢٠٢٣ - ١٠:٢٥ ص
122

 الصوفية.. رؤية من الداخل (25) دَعوَى رُؤيَةِ النَّبِيِّ H يَقَظَةً بَعدَ وَفَاتِه وَالتَّلَقِّي عَنهُ مُبَاشَرَةً عند الصوفية

كتبه / إمام خليفه                                

الحمد لله وكفى , وسلام على عباده الذين اصطفى لا سيما عبده المصطفى , وآله المستكملين الشرفا, وبعد..

تكلمنا في المقال السابق عن طرق الكشف عند الصوفية  ،واليوم بإذن الله تعالى نكمل الكلام حول :  أهم طرق الكشف عند الصُّوفيَّة ومنها دَعوَى رُؤيَةِ النَّبِيِّ H يَقَظَةً بَعدَ وَفَاتِه   وَالتَّلَقِّي عَنهُ مُبَاشَرَةً .

من أنواع الكشف عند الصوفية:  دَعوَى رُؤيَةِ النَّبِيِّ H يَقَظَةً بَعدَ وَفَاتِه     وَالتَّلَقِّي عَنهُ مُبَاشَرَةً:

لم يقتصر الأمر بالنسبة إلى النَّبِيHعلى الرؤى المنامية، بل زعموا رؤيته Hفي حال اليقظة والتلقي عنه مباشرة، وهذه المسألة مفروغ منها عندهم لكثرة كلام الأعلام فيها جوازًا واتفاق محققيهم على جواز رؤية النَّبِي Hيقظة وكذا رؤية الملائكة، ومن أهم كتبهم في ذلك تأليف الحافظ السيوطي المسمى (تنوير الحلك في إمكان رؤية النَّبِي والملك) .

قال الغزالي: ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات والمشاهدات، حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة، وأرواح الأنبياء ويسمعون أصواتًا، ويقتبسون منهم فوائد.

وقال النبهاني: ومن المعلوم أنه Hحي في قبره، وأنه لا يراه في اليقظة الرؤية النافعة إِلَّا وليّ، وأنه لا يبعد أنه من أكرم برؤيته أن يكرم بإزالة الحجب بينه وبينه Hمع كونه في قبره، فقد يراه الأولياء في اليقظة في قبره ويحادثونه، وإن بعدت ديارهم واختلفت مراتبهم.

كما ورد أن القطب أبا العباس المرسي تلميذ القطب الأكبر أبي الحسن الشاذلي حكي عنه رؤية النَّبِي Hيقظة مرارًا لا سيَّما عند قبر والده بالرافة كما حكي أن الشمس محمد بن أبي الحمائل كان يرى النَّبِيHثُمَّ يدخل رأسه في جيب قميصه ثُمَّ يقول: قال النَّبِي Hفيه كذا فيكون كما أخبر لا يتخلف ذلك أبدًا، فاحذر من إنكار ذلك، فإنَّه السُّم الموحى.

وقد ذكر الجيلي أنه رأى النَّبِي Hيقظة، مع أن الشعراني ذكر أن المقصود باليقظة في رؤية النَّبِي H هي يقظة القلب لا يقظة الحواس الجسمانية؛ لأنَّ من أحبه كان نومه من كثرة اليقظة القلبية كحال اليقظة التي لغيره، وحينئذ لا يرى رسول الله Hإِلَّا بروحه المتشكلة بتشكل الأشباح من غير انتقال بانتقال ذاته الشريفة، ومجيئها من البرزخ إلى مكان هذا الرائي لكرامتها وتنزيهها عن كلفة المجيء، والرواح هذا هو الحق الصراح.

ومن أعجب ما استدلوا به على جواز رؤيته Hحال اليقظة، هذا التطور العلمي الزاحف على عقول الناس وعيونهم دقيقة فدقيقة، وليس شهرًا بعد شهر، أو سنةً بعد سنة!! وإن من أبرز المخترعات العلمية التي تجعل رؤية المصطفىHيقظة أمرًا ممكنًا بل أمرًا واقعًا هي مجموعة (التلي). وهي التليفون، والتلفزيون، والتلكسوب، والتلكس إلى آخر قائمة هذه المجموعات العجيبة.

موقف أهل السنة من رؤيته Hفي حال اليقظة والأخذ عنه:

من عبث الصُّوفيَّة بمصادر التلقي، وعدوانهم على المرجعية الشرعية العليا، أنهم ادَّعَوْا أنه يمكن للخواصِّ أن يلقوا رسولَ اللَّه H حال اليقظة، وأن يَتَلَقَّوْا عنه أحكامًا شرعيَّةً ملزمة؛ مما فتح البابَ على مصراعيه للكذِبِ الفاحش على رسول اللَّه H، وادِّعَاءِ إقراره وموافقته على كثير من الضلالات والبدع التي تَلَطَّخَ بها القوم.

 

ذكر أدلتهم والردود عليها:

الدَّلِيلُ الأَوَّلُ: ما رواه أبو هريرة Iقال: سمعت رسول الله H يقول: « مَنْ رآني فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَاني فِي اليَقَظَةِ، وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي»،

قالوا: الحديث صريح في رؤية النَّبِي H يَقَظَةً بعد موته في الدنيا وقد حكى ابن أبى جمرة، والمازرى، واليافعى، وغيرهم عن جماعات من الصالحين، أنهم رأوا النبى Hيقظة. وذكر ابن أبى جمرة عن جمع: أنهم حملوا ذلك رواية: «فسيرانى فى اليقظة» وأنهم رأوه نوما فرأوه بعد ذلك يقظة.

الرد عليهم: مناقشة هذا الاستدلال من وجوه:

أولا- من حيث لفظ الرواية: جاء الحديث من عدة طرق عن أبي هريرة إحداهن باللفظ المذكور آنفًا: « مَنْ رآني فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَاني فِي اليَقَظَةِ، وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي»، وأما سائر الطرق: فجاءت بألفاظ مختلفة. ففي إحداهن: «وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ صُورَتِي». والباقي« من رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَشَبَّهُ بِي »  وهناك رواية بالشك « مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ، أَوْ لَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ، لَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي »، وقد جاء الحديث عن جمع من الصحابةM غير أبي هريرة Iوألفاظها جميعًا متقاربة فظهر من هذين الوجهين أن الرواية التي استدل بها القوم جاءت مخالفة لجميع ألفاظ مَن روى هذا الحديث مِن أصحاب أبي هريرة عنه I، بل جاءت مخالفة لجميع ألفاظ مَن روى هذا الحديث مِن أصحاب النَّبِيH.

الوجه الثَّاني: ونتيجة لهذا الاختلاف حكم العلماء بأن لفظ: فسيراني في اليقظة مشكل، ومن ثمَّ أخذوا يتأوَّلونه، ويذكرون له أجوبة كي يتوافق مع روايات الجمهور، وأوَّلوه على عدة تأويلات على النحو التالي:

قال ابن التين: المراد به من آمن به في حياته ولم يره؛ لكونه حينئذ غائبًا عنه، فيكون بهذا مُبَشِّرًا لكل من آمن به، ولم يره، أنه لا بُدَّ من أن يراه في اليقظة قبل موته، والمعنى: أنَّ اللَّه سيوفقه للهجرة إليه، والتشرف بلقائه في حياته، ويكون اللَّه -تعالى- جعل رؤيته في المنام علامة على رؤياه في اليقظة.

وقال ابن بَطَّال: معناه: سيرى تأويل تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها، وخروجها على الوجه الحق.

وقيل المعنى إنه يراه يَقَظَة في الآخرة، وفي هذا بِشَارَةٌ لرائيه بأن يموت مسلمًا؛ لِأَنَّهُ لا يراه تلك الرؤية الخاصة باعتبار القرب إِلَّا من تَحَقَّقَ موته على الإسلام.

الوجهُ الثَّالث: ذِكر الأدلة النقلية على استحالة وقوع ذلك شرعًا:

إن النَّبِي H قد مات؛ فادعاء حياته بعد موته H قبل يوم القيامة مستحيلٌ شرعًا؛ لِأَنَّهُ يلزم منه مخالفته لقوله -تَعالَى-: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ

} [الزمر: 30].

وقال الألوسيV: ويكفي في إبطال هذا القول قولُه -تعالى-: {ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ} [الزمر: 42]، فإذا أمسك التي قضى عليها فمن أين لها التمكن من التصرف؟ ومن أين لأحدٍ أن يراها؟  وهذا مخالف للحس والواقع، فقد رآه H جمعٌ كثير من سلف الأمة وخَلفها في المنام، ولم يذكر أحد منهم أنه رآه H في اليقظة بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، ومعلوم أن خبر الصادق المصدوق H لا يتخلف أبدًا، فدل هذا على مرجوحية اللفظ المشكِل ووجوب تأويله. قال القرطبي V: اختُلِف في معنى الحديث، فقال قوم: هو على ظاهره، فمن رآه في النوم رأى حقيقته كمن رآه في اليقظة سواء، وهذا قولٌ يُدرَك فسادُه بأوائل العقول، ويلزم عليه: أن لا يراه أحد إِلَّا على صورته التي مات عليها. النَّبِيH بَشَرٌ كان يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ولم يكن له حجم الشمس وارتفاعها، حتى يمكن أن يراه جمع كثير في وقت واحد، ثُمَّ إنَّ النَّبِي H إذا كان في بيته لا يراه إِلَّا من كان معه في البيت، دون من كان خارجه.

الدليل الثَّاني: إن رؤية النَّبِي H داخلة تحت قدرة اللَّه  -تعالى- فالمنكِر لها منكِرٌ لقدرة اللَّه على ذلك، ومن أنكر قدرة اللَّه؛ فقد كفر، واللَّهEالذي أحيا الميت ببعض البقرة: { فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة: 73].

الرد عليهم:

1-من اعتقد أن النَّبِي H لا يُرى يقظة بعد موته في الدنيا، فقد بنى ذلك على أن هذه المسألة من المسائل الاعتقادية -لا أنه منكر لقدرة الله- والأصل في الأمور الاعتقادية الحظر، حتى يرد دليل يرفع هذا الحظر، وليس هناك دليل شرعي معتبر يرفع هذا الحظر، بل دلَّ الشرع والعقل على خلاف ذلك.

2 - إن قدرة اللَّه -تعالى- متعلقة بكل شيء؛ إذ هو القادر على كل شيء -سبحانه- فلا تلازمَ إذن بين قدرة اللَّه -تعالى- وبين رؤية النَّبِي H يقظة بعد موته في الدنيا.

3 - إن رؤية النَّبِيH يقظة بعد موته في الدنيا قد أنكرها جمع غفير من العلماء والأئمة؛ كابن حجر العسقلاني، وأبي بكر بن العربي، وابن تيمية، والألوسي، وغيرهم، فهل معنى هذا أنهم يجهلون قدرة اللَّهD؟! { وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ

} [النور: 16].

4 - إن الإسراء والمعراج كانا معجزة للنبي H خاصة لا يقاس عليها غيرها.

5- إنَّ رؤية النَّبِيH يقظة بعد موته في الدنيا أمر من أمور الاعتقاد لا يجوز فيها القياس؛ لِأَنَّهُا توقيفية..

الدَّلِيلُ الثَّالث:

1-                                أن رؤية النَّبِي H يقظة بعد موته في الدنيا كرامة يمنحها الله من يشاء من عباده، فالمنكِر لها منكرٌ لكرامات الأولياء الثابتة بالكتاب، والسُّنَّة، والآثار المسندة، ففي الكتاب قصة أصحاب الكهف، وقصة الخضر مع موسى، وفي السُّنَّة: قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، وحديث جريج، وغيرها ومن الآثار: قصة عمر Iمع سارية.

الرد عليهم: إن هذا الدليل لا يرد على محل النزاع؛ إذ لا تلازم بين إنكار رؤية النَّبِي H يقظة بعد موته في الدنيا وبين إنكار الكرامة، فقد أنكر رؤيةَ النَّبِي H يقظة بعد موته جمعٌ من العلماء المثبتين لكرامات الأولياء؛ كابن تيمية، وابن حجر العسقلاني، والقرطبي، وابن العربي، والأهدل، وغيرهم.

2 - إن رؤية النَّبِي H يقظة بعد موته في الدنيا ليست من باب الكرامة، وبيان ذلك:

أ- إن الكرامة هبة من الله -تعالى- لمن يشاء من عباده الصالحين لا تُطْلبُ ابتداءً، وهم يقولون بطلبها ابتداء.

ب- إن الكرامة لا تُدْرَك بالتعلم، وهم يقولون بأنَّها تدرك بالتعلم والكسب عن طريق كثرة الذكر والرياضة. قال الشيخ صنع اللَّه الحلبي الحنفي: أما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات فهو من المغالطة؛ لأنَّ الكرامة شيء من عند اللَّه يكرم بها أولياءه، لا قصد لهم فيها، ولا تحديَ، ولا قدرة، ولا علم؛ كما في قصة مريم بنت عمران، وأسيد ين حضير، وأبي مسلم الخولاني"اهـ.

ج- إن الكرامة أمر خارق للعادة، لا يخالف النصوص الشرعية الثابتة بالكتاب والسنَّة، ورؤية النَّبِي H يقظة بعد موته في الدنيا معارضة لنص شرعي، كما أنها مستحيلة عقلًا.

شبهة:

 استدلوا على صحة التلقي عند الكشف بقصة الخضر مع موسى وأنه يسعهم أن يخرجوا على شريعة النَّبِي Hكما خرج الخضر عن شريعة موسى.

 قال شيخ الإسلام: ومن استدل على ذلك بقصة الخضر مع موسى:

1- فإنَّ موسى S لم يكن مبعوثًا إلى الخضر ولا كان يجب على الخضر اتباع موسى، بل قال الخضر لموسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه ولما سلَّم عليه. قال: وأنى بأرضك السلام؟ قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل. قال: نعم ، فالخضر لم يعرف موسى حتى عرفه بنفسه.

2- وأما محمد Hفهو الرسول إلى جميع الخلق فمن لم يتبعه من جميع من بلغته دعوته كان كافرًا، ومن قال له مثل ما قال الخضر لموسى فهو كافر.

 3- وما فعله الخضر لم يكن خارجًا عن شريعة موسى إذ لما بيَّن له الأسباب أقرَّه على ذلك.

4- والخضر إن كان نبيًا فليس لغيره أن يتشبه به وإن لم يكن (وهو قول الجمهور)، فأبوبكر، وعمر، أفضل منه فإن هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، ونحن مأمورون أن نقتدي بهما.

5- ومن اعتقد أنه يجوز لأحد أن يخرج عن طاعة النَّبِي Hوتصديقه في شئ من أموره الباطنة والظاهرة فإنه يجب استتابته.

 

 

أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم

الكلمات الدلالية