الصوفية.. رؤية من الداخل (24) الرؤى والمنامات عند الصوفية

الصوفية.. رؤية من الداخل (24)  الرؤى والمنامات عند الصوفية
الاثنين ١٦ أكتوبر ٢٠٢٣ - ١٠:٢٥ ص
158

 الصوفية.. رؤية من الداخل (24)  الرؤى والمنامات عند الصوفية

كتبه / إمام خليفه                                

الحمد لله وكفى , وسلام على عباده الذين اصطفى لا سيما عبده المصطفى , وآله المستكملين الشرفا, وبعد..

تكلمنا في المقال السابق عن الكشف عند الصوفية  ،واليوم بإذن الله تعالى نتكلم عن :  أهم طرق الكشف عند الصُّوفيَّة ومنها الرؤى والمنامات

الكشف الصوفي جنس تحته أنواع، وكل نوع يحتمل أنواعًا ودرجات، وهي بجملتها تتناول الكشف عن الأمور الشرعية والكونية، وكل ما يصح أن يكون موضوعًا للمعرفة مثل الرؤى والمنامات، الإسراء والمعراج، التعلق بالقبور، الهواتف، الاطلاع على اللوح المحفوظ، إدعاء لقيا الخضر، الجن والشياطين.

-الرؤى والمنامات:

كثير من المتصوفة والفقراء يبني أموره على منامات وخيالات يعتقدها كشفًا وهي خيالات غير مطابقة، وأوهام غير صادقة، كما قال -تعالى-: { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ

}[الأنعام: 116].

الرؤى والمنامات ليست حجة شرعية: فلا يمكن أن يثبت بها أمر شرعي ولم يرد في الكتاب ولا في السنة اعتبارها حجة، وإنَّما هي تبشير وتنبيه، قال المعلمي في (التنكيل): اتفق أهل العلم على أن الرؤيا لا تصلح للحجة، وإنَّما هي تبشير وتنبيه وتصلح للاستئناس بها إذا وافقت حجة شرعية.

 والنائم ليس في حالة من يمكن تثبته من القول الذي يقال له؛ ولذا لا يمكن أن يعدُّ قوله في مقابل الشرع الثابت ومساوٍ له، قال النووي V: حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي وقد اتفقوا على أن من شرط من تقبل روايته وشهادته أن يكون مستيقظا لا مغفلا ولا سيئ الحفظ ولا كثير الخطأ ولا مختل الضبط، والنائم ليس بهذه الصفة، فلم تقبل روايته لاختلال ضبطه".

ومن الأدلة على اعتمادهم على الرؤى والمنامات أنهم وضعوا لها صيغًا وأدعية، وصلوات، نصَّوا على أنها من الأسباب الجالبة لتحصيل الرؤى المنامية، وملؤا كتبهم بالكلام عن الرؤى، وأنه يعتمد عليها وغالبها تتعلق برؤية النَّبِي H، فقد ذكر النبهاني في كتابه (سعادة الدارين) أربعين فائدة ما بين صلوات وأدعية ومجربات لتحصيل الرؤى المنامية غالبها تتعلق برؤية النَّبِي H، فمن ذلك: من أراد أن يرى الله منامًا، أو النَّبِيHمنامًا، أو يرى منزلته في الجنة، فليصلِّ على النَّبِي H يوم الجمعة ألف مرة بهذه الصيغة (اللهم صل على سيدنا محمد النَّبِي الأمي).

يستمد الصُّوفيَّة عن الرؤى والمنامات أمورًا كثيرة، منها:

أولاً: تصحيح عقائدهم الباطلة:

ومن أمثلة ذلك: أن ابن عربي زعم أنه ألَّف كتابه الكفري (فصوص الحكم) بإذن النَّبِي H في المنام، وكيف يقر الرسول Hهذا الكتاب الملئ بالكفر فواعجبًا لفعل القوم وتصوراتهم!!!.

وزعم ابْنُ الفَارِضِ: أنه رأى رسول الله H في المنام، فسأله -أي النَّبِي- عن قصيدته التائية الكبرى، بِمَ سَمَّاهَا؟ فأجابه ابن الفارض بأنَّه سماها (لوائح الجَنان، وروائح الجِنان)، فقال له النَّبِي: لا، بل سَمِّهَا (نظم السلوك). ومن هنا كان الاسم عنوانًا على هذه القصيدة، اشْتُهِرَتْ به وكذلك البوصيري صاحب (البردة) فذكر أنه لما سمعها النَّبِيHأعجبته وجعل يتمايل وهذا في المنام.

يقول د/محمد إسماعيل المقدم: وكيف يقر رسول اللَّه H هذه القصيدة وفيها طامَّات وغلوٌّ وابتداع وانحراف عن هديه H مما يأباه رسول الله H، وقد نهىH أمته عن إطرائه بالغلو في مدحه H. وقد غلا الناس في هذه القصيدة فزعموا أنها تُقرأ لتفريج الكربات، وتيسير العسير، وأن بعض أبياتها أمان من الفقر، وبعضها أمان من الطاعون، بل اشترطوا لقراءتها الوضوء، واستقبال القبلة، والدقة في تصحيح ألفاظها وإعرابها، والعلم بمعانيها، إلى غير ذلك.

ثانيًا-تصحيح أقوال الصُّوفيَّة ورسومهم: ومن أمثلة ذلك:

قول الجنيد: رأيت في المنام كأني واقف بين يدي الله -تعالى-، فقال لي: يا أبا القاسم، من أين لك هذا الكلام الذي تقول؟!، فقلت: لا أقول إِلَّا حقا. فقال: صدقت.

 

ثالثاً-تفسير بعض آي الكتاب العزيز:

قال ابن عربي: رأيت رسول الله H في المنام، فقلت: قوله -تعالى-: { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

} [النور: 35]: ما هذه الشجرة؟ فقال: كنى عن نفسه -سبحانه-، ولذلك نفى عنها الجهات، فإنه لا يتقيد بالجهات، والغرب والشرق: كناية عن الفرع والأصل؛ فهو الله، فالق المواد وأصلها، ولولا هو ما كانت المادة.

وزعم أبو الحسن الشاذلي أنه علم معنى قوله -تعالى-: { وثيابك فطهر } [المدثر:4] لرؤيا رآها ورسول الله H يقول له: يا علي، طهَّر ثيابك من الدنس تحظ بمدد الله في كل دهر، فقلت: يا رسول الله، وما ثيابي؟ فقال: اعلم أن الله -تعالى- قد خلع عليك خمس خلع، خلعة المحبة، وخلعة المعرفة، وخلعة التوحيد، وخلعة الإيمان، وخلعة الإسلام، ومن أحب الله هان عليه كل شيء، ومن عرف الله صغر في عينيه كل شيء، ومن وحَّد الله لم يشرك به شيئًا، ومن آمن بالله أمن من كل شيء، ومن أسلم لله لم يعصه، وإن عصاه يعتذر إليه، وإن اعتذر إليه قبل عذره.

قال الشاذلي بعد هذا القول: ففهمت عند ذلك تفسير قوله -تعالى-: { وثيابك فطهر } [المدثر: 4].

رابعًا: التمييز بين صحيح الأحاديث وضعيفها:

قال أبو المواهب الشاذلي: رأيت رسول الله H فسألته عن الحديث المشهور: «اذكروا الله حَتَّى يَقُولُوا: مَجْنُونٌ ». وفي صحيح ابن حبان:« أَكْثِرُوا من ذِكْرَ اللهِ حَتَّى يَقُولُوا: مَجْنُونٌ ». فقال H: صدق ابن حبان في روايته، وصدق راوي (اذكروا الله)؛ فإني قلتهما معًا مرة قلت هذا، وقلت هذا.

وقال الشاطبي V: وأضعف هؤلاء احتجاجًا قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المنامات وأقبلوا وأعرضوا بها، فيقولون: رأينا فلانًا الرجل الصالح، فقال لنا: اتركوا كذا، واعملوا كذا، ويتفق هذا كثيرًا للمتمرسين برسم التَّصَوُّف، وربما قال بعضهم: رأيت النَّبِي H في النوم فقال لي كذا، وأمرني بكذا. فيعمل بها ويترك بها، معرضًا عن الحدود الموضوعة في الشريعة، وهو خطأ؛ لأنَّ الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعًا على حال غير أنَّ تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن سوغتها عمل بمقتضاها، وإلا وجب تركها والإعراض عنها.

وإنَّما تكمن فائدة الرؤيا في البشارة أو النذارة خاصة، وأما استفادة الأحكام فلا، قال ابن قيم الجوزية V: وأمّا رؤيا غيرهم، فتُعْرَض على الوحي الصَّريح، فإن وافقته وإلّا لم يعمل بها. فإن قيل: فما تقولون إذا كانت رؤيا صادقةٌ، أو تواطأت؟ قلنا: متى كانت كذلك استحال مخالفتها للوحي. بل لا تكون إلّا مطابقةً له، منبِّهةً عليه، أو منبِّهةً على اندراج قضيّةٍ خاصّةٍ في حكمه، لم يعرف الرّائي اندراجها فيه، فيُنَبَّه بالرُّؤيا على ذلك قال الشيخ عبد الرحمن المُعَلِّميُّ V: الرؤيا قصاراها التبشير والتحذير، وفي الصحيح: أن الرؤيا قد تكون حقًّا وهي المعدودة من النبوة، وقد تكون من الشيطان، وقد تكون من حديث النفس، والتمييز مشكل فالشريعة حاكم، لا محكوم عليها.

 

 

أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم

الكلمات الدلالية