الصوفية.. رؤية من الداخل (21) الإلهام عند الصوفية

الصوفية.. رؤية من الداخل (21) الإلهام عند الصوفية
الخميس ٠٥ أكتوبر ٢٠٢٣ - ١٠:٥٠ ص
194

 الصوفية.. رؤية من الداخل (21) الإلهام عند الصوفية

كتبه/ إمام خليفة

الحمد لله وكفى , وسلام على عباده الذين اصطفى لا سيما عبده المصطفى , وآله المستكملين الشرفا, وبعد..

تكلمنا في المقال السابق عن مصادر التلقي بين أهل السنة و الصُّوفيَّة ،واليوم بإذن الله تعالى نتكلم عن :  الإلهام عند الصوفية  وهو أول مصدر من مصادر التلقي عندهم.

الإلهام (تعريفه وأنواعه):

تعريفه لغة: ما يلقى في الروع أو ما يلقيه الله في النفس من الأنوار التي تبعث على الفعل أو الترك..

واصطلاحًا: إيقاع في القلب فيطمئن له ويسكن من غير استدلال بآية ولا نظر في حجة يخص الله به بعض أصفيائه؛ ولهذا سمي لدنيا.

حجية الإلهام عند الصُّوفيَّة: ذهب الغزالي إلى التسوية بين وحي الأنبياء وإلهام الأولياء فقال: عن العلوم التي تحصل في القلب بغير حيلة وتعلم واجتهاد من العبد بل تهجم على القلب بدون كسب منه وهذه تنقسم إلى ما لا يدري العبد أنه كيف حصل له ومن أين حصل وهذا يسمى إلهامًا ونفثًا في الروع وهذا يختص به الأولياء والأصفياء وإلى ما يطلع معه على السبب الذي منه استفاد ذلك العلم، وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب: وهذا يسمى وحيًا وتختص به الأنبياء والذي قبله وهو المكتسب بطريق الاستدلال يختص به العلماء وحقيقة القول فيه أن القلب مستعد؛ لأن تنجلي فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها.وقال في الإحياء : ولم يفارق الوحي الإلهام في شئ أي في نفس العلم ومحله وسببه ولكن يفارقه في مشاهدة الملك.

بل ذهب بعضهم إلى أن إلهام الأولياء أفضل من وحي الأنبياء ، قال علاء الدين القونوي: الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، وهي واحدة من الخصائص العلمية للأنبياء: فأعلاها: تكليم الله بغير واسطة، ثانيها: الإلهام بلا كلام، ثالثها: الوحي على لسان الملك، رابعها: نفث الملك في روعه أي قلبه، خامسها: كمال عقله،... ([1]ولذا قال شيخ الإسلام:  ولهذا كان غلاة الجهمية من الاتحادية ونحوهم يدعون أن ما يحصل لهم من الإلهام أفضل مما حصل لموسى بن عمران وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين.

وقد سمى الصوفية العلم الناتج عن الإلهام (علما لدنيا) حاصلا بمحض فضل الله وكرمه ولهذا ركز الصوفية على الإلهام وانصرفوا بعيدا عن الوحي لأن الوحي خاص بالأنبياء وموقوف عليهم أما العلم اللدني أو الإلهام فهو للأولياء والأصفياء (مجموعة رسائل الغزالي 249)

ولاشك في أن الإلهام منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم.

قال شيخ الإسلام: قال -تعالى-: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}[الشمس: 7-8] فهو -سبحانه- يلهم الفجور والتقوى للنفس، والفجور يكون بواسطة الشيطان وهو إلهام وسواس، والتقوى بواسطة ملك وهو إلهام وحي، هذا أمر بالفجور، وهذا أمر بالتقوى، والأمر لابد أن يقترن به خبر،  وهذه الآية مما تدل على أنه يفرق بين إلهام الوحي وبين الوسوسة. فالمأمور به إن كان تقوى الله فهو من إلهام الوحي، وإن كان من الفجور فهو من وسوسة الشيطان. فيكون الفرق بين الإلهام المحمود وبين الوسوسة المذمومة هو الكتاب والسنة، فإن كان مما ألقي في النفس مما دل الكتاب والسنة على أنه تقوى لله، فهو من الإلهام المحمود، وإن كان مما دل على أنه فجور فهو من الوسواس المذموم وهذا الفرق مطرد لا ينتقض.

قال العلامة التاج ابن السبكي في جمع الجوامع- تبعًا لغيره-: وإن الإلهام ليس بحجة لعدم ثقة من ليس معصومًا بخواطره.

ولذلك هناك نوعان من الإلهام:

1-                الإلهام الشرعي:

وهو مثل اجتهاد السالك في الأدلة الشرعية مع حسن قصده وعمارته بالتقوى والتي لم ير فيها ترجيحًا فألهم حينئذ رجحان أحد الفعلين مع ما سبق من تقوى وورع فإلهام مثل هذا دليل في حقه فقد يقع في قلبه أن هذا القول أرجح وأظهر وأصوب، وقد يميل قلبه إلى أحد الأمرين دون الآخر، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي Hأَنه قَالَ: «قد كَانَ فِي الْأُمَم قبلكُمْ محدَّثون فَإِن يكن فِي أمتِي أحد فعمر مِنْهُم» والمحدَّث هُوَ الملهم الْمُخَاطب وقالH:«الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» فإذا كانت الأمور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن يقينا أو ظنا، فالأمور الدينية كذلك بطريق الأولى،  فإنه إلى كشفها أحوج، لكن هذا في الغالب لا بد من أن يكون كشفا بدليل، وقد يكون بدليل ينقدح في قلب المؤمن، ولا يمكنه التعبير عنه وهذا أحد ما فسر به معنى (الاستحسان)، قال شيخ الإسلام: وكثير من أهل الإيمان والكشف يلقي الله في قلبه أن هذا الطعام حرام؛ وأن هذا الرجل كافر؛ أو فاسق؛ أو ديوث؛ أو لوطي؛ أو خمار؛ أو مغن؛ أو كاذب؛ من غير دليل ظاهر بل بما يلقي الله في قلبه. وكذلك بالعكس يلقي في قلبه محبة لشخص وأنه من أولياء الله؛ وأن هذا الرجل صالح؛ وهذا الطعام حلال وهذا القول صدق؛ فهذا وأمثاله لا يجوز أن يستبعد في حق أولياء الله المؤمنين المتقين.

وَلَيْسَ الْمَقْصُود هُنَا بَيَان أَن هَذَا وَحده دَلِيل على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة؛ لَكِن إِن مثل هَذَا يكون تَرْجِيحا لطَالب الْحق إِذا تكافأت عِنْده الْأَدِلَّة السمعية الظَّاهِرَة. فالترجيح بهَا خير من التَّسْوِيَة بَين الْأَمريْنِ المتناقضين قطعا فَإِن التَّسْوِيَة بَينهمَا بَاطِلَة قطعًا.

2-                الإلهام البدعي:

وهو الإلهام الذي اعتمدوا عليه وتركوا الكتاب والسنة وكثير من هؤلاء ينفر ممن يذكر الشرع أو القرآن، أو يكون معه كتاب، أو يكتب؛ وذلك لأنهم استشعروا أن هذا الجنس فيه ما يخالف طريقهم، فصاروا يرغبون فيما تمليه عليهم شياطينهم، ويهربون من سماع الكتاب والسنة، وهم من أرغب الناس في السماع البدعي سماع المعازف وغيرها، ومن أزهدهم في السماع الشرعي سماع آيات الله -تعالى-؛ لأنهم يظنون أنهم يحصل لهم بطريقهم أعظم مما يحصل بالسماع الشرعي، فمنهم من يظن أنه يلقن القرآن بلا تلقين، ويقولون إن الرياضة تصقل النفس فيذكر أشياء كان قد نسيها ويحكى أن بعضهم قال: (أخذوا علمهم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت). وهذا لظنه أن هذا الخاطر من الله تعالى بلا واسطة. وبالتالي صاروا عند أنفسهم أعظم من أن يتبعوا الرسول. يقول أحدهم: (فلان عطيته على يد محمد وأنا عطيتي من الله بلا واسطة). ويقول  أيضًا: (فلان يأخذ عن الكتاب وهذا الشيخ يأخذ عن الله) ومثل هذا.

ولذلك نقول له: من أين لك أن هذا إنما هو من الله لا من الشيطان وإلقائه ووسوسته؟ فإن الشياطين يوحون إلى أوليائهم وينزلون عليهم كما أخبر الله -تعالى- بذلك في القرآن وهذا موجود كثيرا في عباد المشركين وأهل الكتاب وفي الكهان والسحرة ونحوهم وفي أهل البدع بحسب بدعتهم. فإن هذه الأحوال، قد تكون شيطانية وقد تكون رحمانية، فلا بد من الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، والفرقان إنما هو الفرقان الذي بعث الله به محمداH فهو: {تبارك الذي نزل الفرقان ليكون للعالمين نذيرا}[الفرقان:1]وهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل.

قال أبو الحسن الشاذلي: إذا تعارض كشفك مع الكتاب والسنة فتمسك بالكتاب والسنة ودع الكشف وقل لنفسك إن الله -تعالى- ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة ولم يضمنها في جانب الكشف، ولا الإلهام ولا المشاهدة إلا بعد عرضها على الكتاب والسنة، إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة التي تبين أن الاستقامة علي الشريعة المطهرة هي أفضل من أي كرامة وهو ما أكَّده أئمة الصُّوفيَّة الكرام.

ويقول عبد الله بن الصديق الغماري من الصوفية: حتى إِن المُحدَّث منهم- بفتح الدال المشددة- إِذا تحقق وجوده لا يحكم بما وقع له، بل لا بُدَّ من عرضه على القرآن، فإِن وافقه أو وافق السنة عمل به، وإِلا تركه. والراجح عند الجمهور أنه ليس بحجة، لانتفاء العصمة، وهو الموافق لقول جمهور الصُّوفيَّة  .

من أدلة الصُّوفيَّة على حجية الإلهام:

1-استدلوا بقوله: {وما فعلته عن أمري} [الكهف: 82] فمن قال بنبوة الخضر؛ قال إنه أوحى إليه عن طريق الملك. ومن قال إنه ولي أجاب بأنَّه وحي إلهام، واستدل به على حجية الإلهام.

الرد عليهم: قال ابن جرير في تفسير هذه الآية: أي ما فعلت يا موسى جميع الذي رأيتني فعلته عن رأيي، ومن تلقاء نفسي، وإنَّما فعلته عن أمر الله إياي به. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثا سعيد، عن قتادة { وما فعلته عن أمري }: كان عبدا مأمورا، فمضى لأمر الله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: { وما فعلته عن أمري } ما رأيت أجمع ما فعلته عن نفسي. { وما فعلته عن أمري } أي لَكِنِّي أُمِرْتُ بِهِ وَوُقِفْتُ عَلَيْهِ، ظاهره أنه فعله بأمر الله -تعالى-، والأصل عدم الواسطة، ويحتمل أن يكون بواسطة نبي آخر لم يذكر، ولا سبيل إلى القول بأنه إلهام؛ لأن ذلك لا يكون حجة حتى يعلل به ما عمل من قتل النفس وتعريض الأنفس للغرق، وأيضًا فكيف يكون غير النبي أعلم من النبي، وكيف يكون النبي تابعا لغير النبي، وقال بعض أكابر العلماء إن إنكار نبوته أول درجة من الزندقة؛ لأن الزنادقة يستدرجون بكونه غير نبي إلى أن الولي أفضل من النبي. قال النووي: واحتج من قال بنبوته بقوله: (وما فعلته عن أمري)فدل على أنه نبي أوحي إليه، وبأنه أعلم من موسى ويبعد أن يكون ولي أعلم من نبي، وأجاب الآخرون بأنه يجوز أن يكون قد أوحى الله إلى نبي في ذلك العصر أن يأمر الخضر بذلك.

قال ابن حجر: وينبغي اعتقاد كونه نبيا لئلا يتذرع بذلك أهل الباطل في دعواهم أن الولي أفضل من النبي حاشا وكلا.

2- قوله تعالى-: { فألهمها فجورها وتقواها }[الشمس:8] استدلوا بهذه الآية على حجية الإلهام وكونه من أدلة الأحكام.

الرد عليهم: في قوله -تعالى-: {فألهمها فجورها وتقواها}أي فأرشدها إلى فجورها وتقواها، أي: بين ذلك لها وهداها إلى ما قدر لها. قال ابن عباس: { فألهمها فجورها وتقواها } بين لها الخير والشر، فهذا تفسيرالسلف فأين في الآية ما يدل على حجية الإلهام؟، قال ابن حجر: معناه عرفها طريق العلم وهو الحجج.

3- قال تعالى-: {قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا} [النساء: 174] فالعارف مخاطب من الله في جميع أنفاسه، وحركاته، ينزل على قلبه من الله وحي الإلهام، ورُبَّما يخاطبه بنفسه، ويكلمه بكلامه، ويحدثه بحديثه.

الرد عليهم: قال الطبري: يعني -جل ثناؤه- بقوله: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان }، يا أيها الناس من جميع أصناف الملل، يهودها ونصاراها ومشركيها، {قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا}، يقول: قد جاءتكم حجة من الله تبرهن لكم بطول ما أنتم عليه مقيمون من أديانكم ومللكم، وهو محمد H، الذي جعله الله عليكم حجة قطع بها عذركم، وأبلغ إليكم في المعذرة بإرساله إليكم، مع تعريفه إياكم صحة نبوته، وتحقيق رسالته، يقول: وأنزلنا إليكم معه (نورًا مبينًا)، يعني: يبين لكم المحجة الواضحة، والسبل الهادية إلى ما فيه لكم النجاة من عذاب الله وأليم عقابه، وذلك (النور المبين)، هو القرآن الذي أنزله الله على محمد H.

4-حديث «قد كَانَ فِي الْأُمَم قبلكُمْ محدَّثون فَإِن يكن فِي أمتِي أحد فعمر مِنْهُم». يقول ابن عربي عن الأولياء: وإنَّما يأتون M بأسرار وحكم من أسرار الشريعة، مما هي خارجة عن قوة الفكر والكسب، ولا تنال أبدًا إِلَّا بالمشاهدة والإلهام وما شاكل هذه الطرق، ومن هنا تكون الفائدة في قوله H«إن يكن في أمتي محدَّثون فمِنْهُم عمر»، فدلَّ على عصمته بشهادة المعصوم ، وليس الاطلاع على غوامض العلوم الإلهية من خصائص نبوة التشريع، بل هي سارية في عباد الله من رسول وولي وتابع ومتبوع، فالإلهام معصوم من الخطأ بهذا الدليل وهو حاصل لكل أحد.

والرد عليهم: أن هذا الحديث يدل على أن أول المحدثين من هذه الأمة عمر؛ وأبو بكر أفضل منه إذ هو الصديق فالمحدث - وإن كان يلهم ويحدث من جهة الله -تعالى- فعليه أن يعرض ذلك على الكتاب والسنة فإنه ليس بمعصوم كما قال أبو الحسن الشاذلي: قد ضمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف والإلهام. ولهذا كان عمر بن الخطاب وقافا عند كتاب الله وكان أبو بكر الصديق يبين له أشياء تخالف ما يقع له كما بين له يوم الحديبية ويوم موت النبي Hويوم قتال مانعي الزكاة وغير ذلك وكان عمر بن الخطاب يشاور الصحابة؛ فتارة يرجع إليهم وتارة يرجعون إليه وربما قال القول: فترد عليه امرأة من المسلمين قوله وتبين له الحق فيرجع إليها ويدع قوله كما قدر الصداق وربما يرى رأيا فيذكر له حديث عن النبي H فيعمل به ويدع رأيه وكان يأخذ بعض السنة عمن هو دونه في قضايا متعددة وكان يقول القول فيقال له: أصبت فيقول والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأه؟. فإذا كان هذا إمام المحدثين فكل ذي قلب يحدثه قلبه عن ربه إلى يوم القيامة هو دون عمر فليس فيهم معصوم بل الخطأ يجوز عليهم كلهم.إلى هنا ينتهي حديثنا عن المصدر الأول من مصادر التلقي عند الصوفية وهو الإلهام ونكمل حديثنا في اللقاء القادم إن شاء الله تعالى حول المصدر الثاني وهو الذوق

([1]) الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز، أحمد بن مبارك اللمطي السجلماسي (1/ 185).

أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم

الكلمات الدلالية