الصوفية.. رؤية من الداخل (20) مصادر التلقي بين أهل السنة والصوفية

الصوفية.. رؤية من الداخل (20) مصادر التلقي بين أهل السنة والصوفية
الاثنين ٠٢ أكتوبر ٢٠٢٣ - ١٠:٤٣ ص
89

          الصوفية.. رؤية من الداخل (20) مصادر التلقي بين أهل السنة والصوفية

  كتبه /إمام خليفه                                 

الحمد لله وكفى , وسلام على عباده الذين اصطفى لا سيما عبده المصطفى , وآله المستكملين الشرفا, وبعد..

تكلمنا في المقال السابق عن الطرق الصُّوفيَّة نشأتها وأشهر أسمائها ،واليوم بإذن الله تعالى نتكلم عن :  مصادر التلقي بين أهل السنة و الصُّوفيَّة.

 مصادر التلقي هي مصادر التشريع أو الأصول التي يؤخذ منها التشريع أو الأدلة التي تبنى عليها الأحكام الشرعية.

مصادر التلقي عند أهل السنة والجماعة قسمان:

 القسم الأوَّل مصادر أولية: الكتاب، والسنة، والإجماع، وأما القياس فهو وإن كان من أدلة التشريع غير أنَّ الفرق بينه وبين هذه المصادر أن القياس الأصولي لا يصح في مسائل الاعتقاد، ثُمَّ إن هذه المصادر يؤخذ الحكم منها مباشرة، أما القياس فإنه إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة ورد نص بحكمها في الحكم الذي ورد به النص لتساوي الواقعتين في علة الحكم.

القرآن الكريم:  القرآن الكريم فهو حُجّة عند أهل السنة والجماعة في جميع قضايا الدين العلمية والعملية والإنشائية والخبرية، وهو الفرقان بين الحق والباطل كما قال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا  [الفرقان: 1]. فكل من بلغه هذا القرآن فقد أُنذر به، وقامت عليه حُجّة الله. فلو كان عندك رجل كافر تريد أن تقيم عليه حُجّة الله، فإذا أعطيته ترجمة للقرآن الكريم تكون قد أقمتَ عليه الحجة ؛ لأن هذا القرآن هو حُجّة بنفسه، قال تعالى:  وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ  [الأنعام: 19]. وقد أمرنا الله تعالى بالتحاكم إلى القرآن فقال تعالى :  وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى: 10]. وقال لنبيه ﷺ عن هذا القرآن:  لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ  [النساء: 105].  وهذا القرآن الكريم الذي حفظه الله تعالى علّمه النبي ﷺ لأصحابه، وأصحابه علّموه للتابعين، قال ابن مسعود رضي الله عنه : "والذي لا إله غيره ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت، وما من آية إلا أنا أعلم فيما أُنزلت، ولو أعلم أحداً هو أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبتُ إليه" [رواه مسلم: 2463].

ومن الأدلة على أن هذا القرآن بقي محفوظاً معانيه معروفة عند الصحابة والتابعين قول مجاهد -رحمه الله-: "لقد عرضتُ القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية أسأله فيما أُنزلت وفيما كانت". [رواه الدرامي: 1160، وقال محققه: إسناده صحيح]. ثلاث مرات يعرضه مجاهد على ابن عباس، فنقل مجاهد علم ابن عباس كما نقله غيره من طلاب ابن عباس، ونقل طلاب مجاهد عن مجاهد علم ابن عباس وغيره وهم كثير طلاب مجاهد -رحمه الله- وهكذا انتشر العلم في الأمة.

السنة النبوية: وهي ما نُقِل عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير، قرر شيئاً ورضيه، فهو حُجّة، ما أُثر عن النبي ﷺ من قول أو عمل أو تقرير أو سيرة أو صفة خَلْقية أو خُلُقية، وهكذا، هذه السنة، والدليل على حُجّية السنة من القرآن قوله تعالى:  وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى  [النجم: 3، 4] ،  وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ  [الأحزاب: 34]. آيات الله القرآن والحكمة هي السنة.

قال الشافعي -رحمه الله-: "فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله ﷺ" [رواه أحمد: 1/12، والبيهقي في السنن الصغير: 679، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه: 1/259].

وقال ﷺ:  ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه .فإذن، السنة النبوية حُجّة، والسنة النبوية ملزمة، من يطع الرسول فقد أطاع الله،  يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، وقال: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ  لم يقل: فردوه إلى القرآن فقط.

قال:  فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ   [النساء: 59] إذن، السنة تُرد إليها الأشياء، والسنة حُجّة، والسنة ملزِمة.

وهناك طائفة ظهرت في هذا الزمان ولهم سلف فيما مضى من الزمان وهم طائفة القرآنيين، ماذا تقول طائفة القرآنيين؟ يقولون: السنة نحن لسنا ملزمين فيها، السنة دخل فيها أحاديث ضعيفة وموضوعة، والسنة آراء، والسنة من النبي ﷺ وتجارب شخصية وأشياء من هذا القبيل، والقرآنيون هذه كلمة مضللة؛ لأنهم لو كانوا يطبّقون القرآن لطبّقوا الآيات التي تقول:  فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ  [النساء: 59]. مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ  [النساء: 80]  قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي  [آل عمران: 31]. فالسنة ملزمة، وهؤلاء يقولون: ليست ملزمة.

النبي ﷺ ، قال من قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة:  لا ألفينّ أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر مما أمرتُ به أو نهيتُ عنه فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه  رواه الترمذي وحسّنه وغيره، وهو حديث صحيح. [رواه أحمد: 23876، والترمذي: 4605،  والحاكم: 368، وصححه الألباني في المشكاة: 162].

الإجماع: الإجماع ما أجمع عليه المسلمون باتفاق مجتهدي أمة محمد ﷺ بعد وفاته في عصر من العصور على أمر من الأمور، هذا تعريف الإجماع، ودليل هذا الأصل وهذا المصدر قوله تعالى:  وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ  [النساء: 115].

كما حصل للشافعي -رحمه الله-، كان يلقي الدرس فجاء له رجل، قال: أنت تقول كل شيء تقوله بآية أو حديث، كل شيء تقوله بدليل من القرآن، أنت تقول أن الإجماع حجة، ما الدليل على أن الإجماع حجة؟ فوقف -رحمه الله- يفكّر، فقال الرجل: أمهلتك ثلاثاً، قال الناس: فلم يخرج إلينا الشافعي طيلة ثلاث، فجاء الرجل بعد ذلك فقال: مسألتي، قال: نعم، فقال الشافعي -رحمه الله-:  وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا  [النساء: 115].

يقول الشافعي: "عرضتُ القرآن في هذه الثلاثة الأيام أعرضه عرضاً، أعرضه وأعيده حتى وقعتُ على الدليل في حجية الإجماع وهو:  وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [طبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 2/244]. فهذا إجماع المؤمنين هذا إجماع حُجّة، فالذي يتبّع  غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ  يعني غير الإجماع  نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا  [النساء: 115]. فإجماع الأمة المجتهدين من أمة محمد ﷺ على أمر من الأمور في عصر من العصور، هذا إجماع، ولا تجتمع الأمة على ضلالة، يعني من الأدلة على أن الإجماع حجة أن النبي ﷺ بين أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، لو كانت تجتمع على ضلالة ما كان الإجماع حُجّة، فإذن، لا تجتمع على ضلالة.

القياس: بالنسبة للقياس فإن العلماء -رحمهم الله- قد بينوا كيف أنه يأتي مثلاً بعلّة معينة يُقاس على شيء في الشريعة له حكم معروف، هناك عندنا شيء ليس له حكم معروف، وعندنا شيء له حكم معروف، والعلّة بينهما واحدة مشتركة متماثلة، مثل الكحول، نقول: ما هي العلة في تحريم الخمر؟ الإسكار، إذا أسكر غطّى العقل غيّب العقل فهو خمر، فأي شراب يزيل العقل ويغطيه، فحكمه حكم الخمر، هذا قياس، فالقياس الصحيح إذن، هو حجة.

القسم الثَّاني مصدران تابعان لهما الفطرة والعقل: والعقل مصدر من مصادر المعرفة الدينية غير أنَّه ليس مصدرًا مستقلاً، بل يحتاج إلى تنبيه الشرع وإرشاد الأدلة، وأما الفطرة فإنَّ الإسلام بعقائده وشرائعه هو دين الفطرة.

قال تعالى:  فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا  [الروم: 30].

الفطرة السليمة والعقل الصحيح يقود إلى الحق بطبيعة الحال، ولكن العقل وحده مهما كان قوياً لا يمكن أن يتوصل إلى التشريع، قد يعرف أموراً معينة؛ يعرف أن الله تعالى واحداً، أما الأشياء المفصلة لا يمكن معرفتها إلا بالوحي.

مصادر التلقي عند الصوفية: 

كان من أهم عوامل الانحراف عند الصُّوفيَّة هو اعتمادهم مصادر لتلقي الأحكام مُغَايِرَة للأدلة الشرعية المعصومة؛، وإضفاء الحجية على هذه المصادر المزعومة، الأمر الذي يترتب عليه فتنة في الأرض، وفساد كبير.

اعتمدت الصُّوفيَّة على ثلاثة مصادر أساسية هي الإلهام، والذوق، والكشف، ومن أنواع الكشف عندهم ، ادعاء رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، المنامات - الإسراء والمعراج - التعلق بالقبور - الهواتف- الاطلاع علي اللوح المحفوظ -ادعاء لقيا الخضر-الجن والشياطين). وغير ذلك مما سيأتي ذكره.فكل  هذا جعلوه مصدرا للتلقي وأقبلوا عليها وجعلوها مصادر لاتقبل اللجاج بينما أعرضوا عن التلقي عن الكتاب والسنه وسوف نتناول هذه المصادر بالتفصيل في المقالات القادمة إن شاء الله تعالى.

 

 

أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم

الكلمات الدلالية