الصوفية.. رؤية من الداخل (17) التَّصَوُّف في العصر العثماني وسماته

الصوفية.. رؤية من الداخل (17)  التَّصَوُّف في العصر العثماني وسماته
الخميس ٢١ سبتمبر ٢٠٢٣ - ١٣:١٩ م
89

 الصوفية.. رؤية من الداخل (17)  التَّصَوُّف في العصر العثماني وسماته   

كتبه/ إمام خليفة  

الحمد لله وكفى , وسلام على عباده الذين اصطفى لا سيما عبده المصطفى , وآله المستكملين الشرفا, وبعد..

تكلمنا في المقال السابق عن التَّصَوُّف في القرن الثامن  وما بعده ، ودور شيخ الاسلام في مقاومة التصوف الفلسفي.

واليوم بإذن الله تعالى نتكلم عن: التَّصَوُّف في العصر العثماني وسماته

أصبح للتصوف في العصر العثماني شأنًا كبيرًا واتخذ اتباعه الزوايا، والتكايا، والخانقات مكانا لممارسة الأوراد الصوفية ، ورصدت لها الأوقاف وصار لمشايخها سلطة دينية وروحية وصارت لهم أشكال تنظيمية من الرتب والدرجات تبدأ بالمريد، وتنتهي برأس العارفين (القطب)، وصارت الزوايا أداة للكسب واقتناص للسمعة والجاه وتحصيل العطايا، وقد لقيت الحركة الصُّوفيَّة الطرقية تطورًا ملموسًا مع أحد مريدي الطريقة الشاذلية، وهو الشيخ الجزولي (منتصف القرن العاشر الهجري) الذي نشر الطريقة في جميع أرجاء المغرب ولاقت نجاحًا واسعًا.

وظهر القراء والقوالون ولم يهتموا بالعلم ولا بالمدارسة حتى كانت خزائن الكتب إلى جانب الحمامات، والمراحيض، والمدافن، وانتشر الجهل، وقلة الهمة، وبث روح التواكل والخمول، وترك الاجتهاد، وترك العناية بالكتاب والسنة عمومًا.

وقد كانت الدولة العثمانية لا تزال مرهوبة الجانب عند أمم أوروبا، ولكن الحالة العلمية بين المسلمين في هذا القرن لم تكن مضاهية لقوتهم، فقد فشا الجهل فيهم إلى الحد الذي سيأتي في شكاية بعضهم، وكانوا في القرون السابقة يعادون العلوم الفلسفية وحدها، فأضافوا إليها في هذا القرن معاداة العلوم الأدبية والشرعية القائمة على الدليل من الكتاب والسنة الصحيحة وإجماع الأمة .

كل هذا كان من أكبر أسباب ضعف الدولة العثمانية مما جرَّأ المتآمرين عليها من جمعية الاتحاد والترقي، ويهود الدونمة عندما أسقطوا الخلافة وسعوا إلى فصل الدين عن الدولة، مما قاد الأتراك إلى الانحطاط والضعف والتأخر، ولا شك في أن التَّصَوُّف له دور كبير في هذا.

من رموز هذا القرن: عبد الوهاب الشعراني:

من أئمة الصُّوفيَّة في العصر العثماني (توفي 973هــ)، وهوالشيخ عبد الوهاب أحمد بن علي الشعرانيُّ، ويقال: الشعراويُّ. كان عالمًا محدِّثًا صوفيًا، ذا كرامات كثيرة، وتأليفات نفيسة، جامعًا بين الشريعة والطريقة، ومن كلامه في كتابه(تنبيه المغترين) ما نصه، ومن أخلاق السلف الصالح ، ملازمةُ الكتاب والسنة كلزوم الظل للشاخص، ولا يتصدر أحدُهم للإرشاد إِلَّا بعد تبحُّره في علوم السنة المطهرة؛ بحيث يطلع على جميع أدلة المذاهب المندرسة والمستعملة، ويصير يقطع العلماء في مجالس المناظرة بالحجج القاطعة الراجحة الواضحة، وكتب القوم مشحونة بذلك كما يظهر من أقوالهم وأفعالهم. وقد كان سيد الطائفة جُنيدٌ البغداديُّ، يقول: طريقتنا مشيدة بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن، ويحفظ السنة، ويفهم معانيها، لا يصح الاقتداء به، انتهى.

قال: وهذا الخلق قد صار غريبًا في فقراء هذا الزمان، فصار أحدهم يجتمع بمن ليس له قدم في الطريق، ويتلقف منه كلمات في البقاء والفناء، والشطح؛ مما لا يشهد له كتاب ولا سنة، ثُمَّ يلبس له جبة، ويرخي له عذبة، ثُمَّ يسافر إلى بلاد الروم مثلًا، ويظهر الصمت والجوع، فيطلب له مرتبًا أو مسموحًا، ويتوسل في ذلك بالوزراء والأمراء، فربما رتبوا له شيئًا، فيصير يأكله حرامًا في بطنه؛ لكونه أخذ بنوع تلبيس على الولاة واعتقادهم في الصلاح، وكان شيخنا عليٌّ الخواص يقول: إن طريق القوم محررة على الكتاب والسنة، تحريرَ الذهب والجوهر؛ وذلك لأنَّ لهم في كل حركة وسكون نية صالحة موزونة في ميزان السنة، ولا يعرف ذلك إِلَّا من تبحر في علوم الشريعة، انتهى.

ولكن وإن كان كلام فيه عن الاعتدال مؤلفاته موافقة لما عليه الصُّوفيَّة من تقليل شأن العلم الظاهري المأخوذ من الكتاب والسنة، وتمجيد العلم اللدني الباطني المأخوذ من الكشوفات والفتوحات.

 وقسَّم العلم إلى ثلاثة أقسام:

1-      علم العقل: وهو العلم الذي يأتي بعد تأمل ونظر.

2-      علم الأحوال: وهو العلم الذي يأتي عن طريق الذوق.

3-      علم الأسرار: وهو الذي يكون وليد الإلهام.

فهو يرفع الولي إلى مرتبة الأنبياء، بل رجَّح كفته عليه أحيانًا؛ لكونهم اطلعوا على علم الأنبياء بلا واسطة، وتشبيه الولي بالله -سبحانه-؛ لكونه إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، والله مطلع على الخواص، وكذلك الولي، وملأ مؤلفاته بقصص غريبة، زعم أنها كرامات للأولياء، وفيها من الأقوال ما يستحي الإنسان من ذكرها، ومن أشهرها الطبقات الكبرى، والوسطى، ثُمَّ صنَّف في الدفاع عن ابن عربي كتاب (الكبريت الأحمر) في بيان علوم الشيخ الأكبر.

إلى هنا ينتهي حديثنا عن التَّصَوُّف في العصر العثماني وسماته على أن يكون حديثنا في المرة القادمة إن شاء الله تعالى حول التَّصَوُّف في العصر الحديث.

 

أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم

الكلمات الدلالية