الصوفية.. رؤية من الداخل (14) التَّصَوُّف في القرن الخامس سماته، وأهم رموزه

الصوفية.. رؤية من الداخل (14) التَّصَوُّف في القرن الخامس سماته، وأهم رموزه
الاثنين ١١ سبتمبر ٢٠٢٣ - ١١:٢٣ ص
132

 الصوفية.. رؤية من الداخل (14) التَّصَوُّف في القرن الخامس سماته، وأهم رموزه

كتبه/ إمام خليفة

الحمد لله وكفى , وسلام على عباده الذين اصطفى لا سيما عبده المصطفى , وآله المستكملين الشرفا, وبعد..

تكلمنا في المقال السابق عن التَّصَوُّف في القرن الرَّابع سماته، وأهم رموزه.

واليوم بإذن الله تعالى نتكلم عن: التَّصَوُّف في القرن الخامس سماته، وأهم رموزه.

التَّصَوُّف في القرن الخامس:

أسفرت الفترة ما بين القرن الثَّالث إلى الخامس الهجري عن وجود تيارين:

1-التَّصَوُّف السلوكي العملي (الموافق لعامة الأمة في العقائد والمخالف لها في السلوك).

2-التَّصَوُّف شبه الفلسفي صاحب الدعاوى والشطحات المخالفة لعقائد الأمة، وبينما كان التيار الأوَّل يضعف، والثاني يشتد شهد القرن الخامس انحسار التيار شبه الفلسفي، وعودة ظهور التيار السلوكي.

والسبب في ذلك: قوة أصحاب المذاهب الكلامية كالأشاعرة والماتريدية، فهم حاربوا مذاهب الغلو الصوفي كالبسطامي، والحلاج، ولكن على طريقة المتكلمين.

وهذا المنهج المسمى تجاوزًا إصْلاَحيًّا لم يسلم من شطحات الصُّوفيَّة وانحرافاتها، ولكنها لا تقاس على غيرها من أصحاب النظريات الاتحادية والحلولية.

أما عن الرباط والزوايا التي يجتمع فيها الصوفية  فمع بدايات هذا القرن ابتدأ الرباط يتطور ويضاف إلى مهامه مهام أخرى لا تقل أهمية عن السابقة، فقد أصبح معهدًا لتعلم التَّصَوُّف.

ويتميز هذا العصر بكثرة الرموز والمنظرين  والكتاب لهذا الفكر

فإذا ما تجاوزنا إلى القرن الخامس، سنجد أبا عبد الرحمن السلمي (المتوفى: 412 هـ) يتكلم عن المقامات والأحوال كلامًا يبين معانيها، ويستجلي أقوال الصُّوفيَّة فيها دون أن يعنى بتصنيفها، على أنها لا تختلف عما أثر عند سابقيه وهذا من خلال كتابه (طبقات الصُّوفيَّة).

وكذلك فعل القشيري (المتوفى: 465 هـ) في رسالته، ولعله اقتفى آثار أستاذه السلمي، فلم يعمل على الفصل بين الأحوال والمقامات بقدر ما عمل على شرحها واستجلاء مضامينها. وفي النصف الثَّاني من القرن الخامس قام الفقيه الحنبلي الصوفي شيخ الإسلام عبد الله الأنصاري الهروي بنقلة نوعية في تصنيف الأحوال والمقامات، وتنظيمها فجعلها في مائة منزل أو مقام، موزعة على عشرة أقسام، هي على الترتيب: قسم البدايات، وقسم الأبواب، وقسم المعاملات، وقسم الأخلاق، وقسم الأصول، وقسم الأدوية، وقسم الأحوال، وقسم الولايات، وقسم الحقائق، وقسم النهايات، وشرحه ابن قيم الجوزية في كتاب (مدارج السالكين) وتعقَّبه في كثير من المواطن.

وينتهي القرن الخامس بالإمام الغزالي متبعًا سنة أسلافه، لا سيَّما الأنصاري الهروي، فيصنف الإحياء فيقول فيه: (اعلم أن مباني طريق الصُّوفيَّة على أربعة أشياء، هي: اجتهاد، وسلوك، وسير، وطير. فالاجتهاد: التحقق بحقائق الإسلام، والسلوك: التحقق بحقائق الإيمان، والسير: التحقق بحقائق الإحسان، والطير: الجذبة بطريق الجود والإحسان إلى المعرفة.

تصوف الغزالي وفلسفته: بقدر اشتهار الغزالي بأشعريته، اشتهر بتصوفه، ولذلك فهو يمثل مرحلة خطيرة من مراحل امتزاج التصوف بالمذهب الأشعري حتى كاد أن يكون جزءاً منه، ولكن ما نوعية التصوف الذي اعتنقه الغزالي بقوة حتى قال فيه في المنقذ - بعد شرح مطول لمحنته ورحلته وعزلته -: " ودمت على ذلك مقدار عشر سنين، وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره لينتفع به: إني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطريق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلاً، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به " ثم يشرح ويوضح فيقول: وبالجملة فماذا يقول القائلون في طريقة طهارتها - وهي أول شروطها - تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى، وآخرها الفناء بالكلية في الله؟

ويقول في آخر كتابه (المنقذ من الضلال): ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات والمشاهدات، حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة، وأرواح الأنبياء ويسمعون أصواتًا ويقتبسون منهم فوائد. ثُمَّ يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها النطق، فلا يحاول معبرٌ أن يعبر عنها إِلَّا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه. وعلى الجملة، ينتهي الأمر إلى قرب، يكاد يتخيل منه طائفة الحلول، وطائفة الاتحاد، وطائفة الوصول، وكل ذلك خطأ، وقد بيَّنا وجه الخطأ فيه في كتاب المقصد الأسنى، بل الذي لابسته تلك الحالة لا ينبغي أن يزيد على أن يقول:

وكان ما كان مما لستُ أذكرهُ


 

فظنَّ خيرًا ولا تسأل عن الخبرِ

وبالجملة فمن لم يرزق منه شيئًا بالذوق، فليس يدرك من حقيقة النبوة إِلَّا الاسم، وكرامات الأولياء، هي على التحقيق، بدايات الأنبياء. وكان ذلك أول حال رسول الله Hحين أقبل إلى جبل حراء حيث كان يخلو فيه بربه ويتعبد، حتى قالت العرب: إن محمدًا عشق ربه. وهذه الحالة، يتحققها بالذوق من يسلك سبيلها.

فالغزالي في " المقصد الأسني " وإن رد على الاتحادية أو أصحاب وحدة الوجود  ، إلا أنه ذكر أموراً فلسفية وأشار إلى سريتها، فصرح بأن الله معشوق - كما يقوله الفلاسفة  - ولما أشار إلى أبدية الإنسان وأنه لا سبيل عليه للعدم قال: " وكشف ذلك بالحقيقة مما لا يحتمله هذا الكتاب " أي كتاب المقصد الأسني في شرح الأسماء الحسنى.يقول عبدالرحمن بن صالح المحمود في كتابه موقف ابن تيمية من الأشاعرة: ما نوع تصوف الغزالي الذي يقول فيه هذا الكلام - خاصة المقطع الأخير منه -؟.لقد كان التصوف قبله متمثلاً بتصوف المحاسبي، ثم القشيري، وقد سبق حقيقة تصوفهما، وما يحمله من بدع مخالفة للسنة، فهل كان تصوف الغزالي من هذا النوع، أم كان تصوفاً من نوع آخر.إن هناك من يدافع عن الغزالي، ويرى أن تصوفه تصوف سني، وأنه هاجم الفلاسفة والمتكلمين لنصرة طريق الصوفية  ، ولكن المطلع على كتبه - وما ألفه منها للخاصة - كمشكاة الأنوار، والمعارف العقلية، وميزان العمل، ومعارج القدس، وروضة الطالبين، والمقصد الأسني، وجواهر القرآن، والمضنون به على غير أهله، يرى شيئاً آخر غير التصوف المعروف. حيث ذهب الشيخ المحمود في كتابه إلى أن تصوف الغزالي لم يكن سنيا كما يزعم البعض بل كان تصوفا فلسفيا ويدلل على ذلك بأقوال عدة للغزالي مثل قوله في كتابه مشكاة الأنوار وهو من كتبه التي ألفها للخاصة ولذلك يقول في مقدمته: " أما بعد فقد سألتني أيها الأخ الكريم.. أن أثبت إليك أسرار الأنوار الإلهية، مقرونة بتأويل ما يشير إليه ظواهر الآيات المتلوة والأخبار المروية "، ثم يقول: " ولقد ارتقيت بسؤالك مرتقى صعباً تنخفض دون أعاليه أعين الناظرين، وقرعت باباً مغلقاً لا يفتح إلا للعلماء الراسخين، ثم ليس كل سر يكشف ويفشى، ولا كل حقيقة تعرض وتجلى، بل صدور الأحرار قبور الأسرار، ولقد قال بعض العارفين: إفشاء سر الربوبية كفر ... "

وفي النهاية لابد أن الغزالي كان مرحلة فارقة في تاريخ التصوف ونقطة تحول كبيرة أثرت فيمن أتى بعده.

 إلى هنا ينتهي حديثنا عن الكلام حول التصوف في القرن الخامس سماته وأهم رموزه على أن نكمل حديثنا في المقال القادم إن شاء الله تعالى حول التَّصَوُّف في القرن السادس سماته، وأهم رموزه.

 

أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم

الكلمات الدلالية