الصوفية.. رؤية من الداخل (9) التصوف الفلسفي ودور ابن عربي في إرساء دعائمه

الصوفية.. رؤية من الداخل (9) التصوف الفلسفي ودور ابن عربي في إرساء دعائمه
الثلاثاء ٢٢ أغسطس ٢٠٢٣ - ١٦:٣٨ م
163

 الصوفية.. رؤية من الداخل (9)

التصوف الفلسفي ، ودور ابن عربي في إرساء دعائمه

كتبه/ إمام خليفة

الحمد لله وكفى , وسلام على عباده الذين اصطفى لا سيما عبده المصطفى , وآله المستكملين الشرفا, وبعد..

تكلمنا في المقال السابق عن وقفات مع التصوف السلوكي، واليوم بإذن الله تعالى نتكلم عن:  

              التصوف الفلسفي ، ودور ابن عربي في إرساء دعائمه

تعتبر هذه المرحلة من أخطر مراحل الصوفية , حيث تسربت إليها الفلسفة اليونانية فابتعدت بها عما سبقها من مراحل التصوف بل جعلتها من الصوفية الخارجة عن الإسلام فكانت شبيهة بالنصرانية عندما دخلها الروم ومزجوها بالتثليث والفلسفة

ونستطيع أن نجزم من خلال استقراء ما طرأ على الرسالات السماوية التي بدلت وحرفت كاليهودية والنصرانية أن للفلسفة دوراً كبيراً في هذا التبديل ؛ فبسبب نقد الفلاسفة للنصوص التوراتية واتهامها بأنها ساذجة أو أساطير , تحت هذا الضغط راح علماء اليهود يؤولون النصوص تأويلات رمزية  وانتقلت طريقة التأويل الرمزي إلى النصرانية خصوصاً عندما هاجمها رجال الأفلاطونية المحدثة وممثلوا الثقافة اليونانية , وأقر رجال اللاهوت النصراني على أنه ورد في الأناجيل أشياء غير معقوله فأولوها تأويلاً يرضى عنه الفلاسفة

وفي الإسلام جاء الفلاسفة بعد ترجمة الكتب اليونانية ككتاب " التاسوعات" لأفلاطين الإسكندري , نقله إلى العربية عبد المسيح بن ناعمة الحمصي بعنوان " الأثولوجيا" أي الربوبية كما ترجم كتاب " أثولكوجيا " للأرسطوطاليس وفيه نظرية الفيض والإشراق التي ستلعب دوراً خطيراً في التصوف خصوصاً عند السهروردي  وابن عربي

-  وتحت ضغط الفلسفة قام المعتزلة بحذف أو تأويل كل نص يناقض العقل - بزعمهم - كما غرقوا في الجدل العميق الذي يدور حول ألفاظ ( الجوهر - والجزء الذي لا يتجزأ - والجسم - والمتحيز و .... الخ ) , ومثلوا دور الترف الفكري أحسن تمثيل , فانحرفوا بذلك عن الإسلام العملي الإيجابي

وأما الصوفية فقد دخلت عليهم الفلسفة من باب ( التشبه بالإله على قدر الطاقة ) فحاولوا إثبات تشبه العبد بالرب في الذات والصفات والأفعال

كما فعل الغزالي ومن تبعه في كتابه : ( المضنون به على غير أهله) ثم جاء ابن عربي وتلامذته فقالوا بالوحدة المطلقة , لأن الفلاسفة يقولون: الوجود الحقيقي هو للعلة الأولي (الله ) لاستغنائه بذاته فكل ما هو مفتقر إليه فوجوده كالخيال . ومن هنا نشأت نظرية " وحدة الوجود " عند ابن عربي وقد انطلقت ابتداء مما يردده الصوفية بشكل عام من أن الموجود الحق هو الله سبحانه , ويعنون بذلك أن الموجودات والكائنات إنما هي صور زائفة ومجرد أوهام وليست ذاتاً منفصلة قائمة بنفسها , فمثلها لا يستحق أن يطلق عليه الوجود الحقيقي

-ولكنها حرفت عند ابن عربي عن مفهومها لدى الصوفية بحيث انتهى إلى القول بوحدة الوجود فقال أن الوجود الحقيقي هو الله سبحانه , ولكننا نرى هذه الكثرة والتعدد قائمة أمام أعيننا فلا يمكن إنكارها ومن ثم فهذه الموجودات كلها ليست سوى الله ذاته - تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً - وكلها مظهر من مظاهره وتجل من تجلياته , وليست آية من آياته كما مفهوم أهل السنة فحقيقة الرب إذن أنه وجود مطلق لا اسم له ولا صفة ولا يرى في الآخرة , وليس له كلام ولا علم ولا غير ذلك ولكن يُرى في الكائنات فكل كائن هو الله والله هو كل كائن , فاتحد بذلك الوجود مع الخالق المعبود , وتم له ما أراد من هدم صرح التوحيد وكان هذا القول أشد شركاً من قول النصارى , إذ أن الكل في هذا التصور المريض إله يعبد

يقول ابن خلدون وهو يشرح فكرة ابن عربي:  أن التصورات الباطلة عادة ما تكون غامضة ومتناقضة حتى على أصحابها: يزعمون فيه أنّ الوجود له قوى في تفاصيله بها كانت حقائق الموجودات وصورها وموادّها. والقوّة الجامعة لها من غير تفصيل هي القوّة الإلهيّة الّتي انبثّت في جميع الموجودات كلّيّة وجزئيّة وجمعتها وأحاطت بها من كلّ وجه، وإنّما أوجبها عندهم الوهم والخيال.

وحين يرد السؤال : كيف يقال بوحدة الوجود ؟ وهناك خالق ومخلوق ومؤمنون وكفار والكفار يعذبون في النار فمن الذي يعذبهم ؟ ... حتى لا يرد هذا السؤال راح ابن عربي يحرف كل آيات القرآن الكريم ويطبق باطنيته وكفره في كتاب ( فصوص الحكم)

فموسى عليه السلام لم يعاقب هارون عليه السلام إلا لأن هارون أنكر على بني إسرائيل عبادة العجل , وهم ما عبدوا إلا الله لأن الله قضى ألا نعبد إلا إياه , ولذلك كان موسى أعلم من هارون.

والريح التي دمرت عاد هي من الراحة لأنها أراحتهم من أجسامهم المظلمة وفي هذه الريح عذاب وهو من العذوبة

وَأَن فِرْعَوْن كَانَ صَادِقا فِي قَوْله: أَنا ربكُم الْأَعْلَى، وَأَنه عين الْحق، وَأَن العَبْد إِذا دَعَا الله تَعَالَى فعين الدَّاعِي عين الْمُجيب، وَأَن الْعَالم هويته، لَيْسَ وَرَاء الْعَالم وجود أصلا..

ويحكم ابن عربي بإيمان فرعون بقوله تعالى : " قرة عين لي ولك " حيث كَانَ مُوسَى قُرَّةَ عَيْنٍ لِفِرْعَوْنَ بِالْإِيمَانِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ عِنْدَ الْغَرَقِ فَقَبَضَهُ طَاهِرًا مُطَهَّرًا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْخُبْثِ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عِنْدَ إيمَانِهِ قَبْلَ أَنْ يَكْتَسِبَ شَيْئًا مِنْ الْآثَامِ وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. قال شيخ الاسلام:  وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ أَهْلِ الْمِلَلِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّ فِرْعَوْنَ مِنْ أَكْفَرِ الْخَلْقِ بِاَللَّهِ

ابن عربي وكيده للإسلام

إن ابن عربي بكلامه علي الوحدة المطلقة، وهي: أنه لا شيء سوى هذا العالم، وأن الإله أمر كلي لا وجود له إلا في ضمن جزئياته. فهو يسعى بذلك إلي إبطال الدين من أصله، بما يحل به صحة جميع العقائد؛ وأن كل أحد على صراط مستقيم، وأن الوعيد لا يقع منه شيء، وعلى تقدير وقوعه، فالعذاب المتوعد به إنما هو نعيم وعذوبة، ونحو ذلك!! وإن حصل لأهله ألم، فهو لا ينافي السعادة والرضى، كما لم ينافها ما يحصل من الآلام في الدنيا، وهو أصنع الناس في التلبيس،فإنه يذكر أحاديث صحاحا، ويحرفها على أوجه غريبة، ومناح عجيبة، فإذا تدرج معه من أراد الله -والعياذ به- ضلاله، وصل -ولا بد- إلى مراده من الانحلال من كل شرعة، والمباعدة لكل ملة. وخواص أهل هذه النحلة يتسترون  بإظهار شعائر الإسلام، وإقامة الصلاة والصيام، وتمويه الإلحاد بزي التنسك والتقشف، وتزويق الزندقة بتسميتها

أهم أسباب ظهور التصوف الفلسفي

1- التأثر بالفلاسفة ونظرتهم إلى الكون وخالقه، فهم الذين مهدوا الطريق لهذه النظرية الباطنية والقول بوحدة الوجود، بقولهم على الله مالا يعلمون ووصفهم إياه بصفات من نسج خيالهم , وهذا كله بسبب بعدهم عن الشرائع السماوية والأخذ من نور الأنبياء.

هذا الكلام من الفلاسفة كان الإرهاص الذي أدى بابن عربي إلى القول بوحدة الوجود , وإن كان مذهبه أكثر شراً من مذهب الفلاسفة, وللأسف وجد من بعض المسلمين المغفلين من يعظمه ويسميه " الشيخ الأكبر"

2- هناك روافد أخرى أوصلت هؤلاء الناس إلى هذا القول الشنيع الذي يعتبر من أشد المخالفات للإسلام وعقيدة التوحيد , منها القول بالفناء الذي سبق الكلام عنه.

3- إن نفي صفات الله التي قالت بها الجهمية وانتشر شيء من أثرها في صفوف المسلمين , يمكن أن يساعد على نظرية الوحدة، مثل نفي صفة العلو أدى إلى القول بأنه سبحانه في كل مكان , ثم وزعوه في الموجودات كلها.

فهل وجد في العالم أمة أجهل وأضل وأبعد عن العقل والعلم من أمة يكون رؤسها فلاسفة أو لم تكن أئمتكم اليونان كأرسطو وأمثاله مشركين يعبدون الأوثان ويشركون بالرحمن ويقربون أنواع القرابين لذرية الشيطان؟ أو ليس من أعظم علومهم السحر، الذي غايته أن يعبد الإنسان شيطاناً من الشياطين، ويصوم ويصلي، ويقرب له القرابين، حتى ينال بذلك عرضاً من الدنيا، أو ليس كل من كان أقرب إلى الشرائع ولو بدقيقة كان أقرب إلى العقل ومعرفة الحقيقة؟ وهل رأيت فيلسوفا أقام مصلحة قرية من القرى فضلاً عن مدينة من المدائن؟ وهل رأيت صلاحا أو إصلاحا إلا بالقرب من الشرع والتزام تعاليمه؟

إذاً فالمشكلة واحدة في القديم والحديث , فعندما يبتعد الناس عن الشرائع السماوية التي جاءت لخير الإنسان في الدنيا والآخرة , تأتيهم الأزمات تلو الأزمات , اجتماعية وسياسية واقتصادية , نتيجة هذا الفصام النكد بين ما فطر الإنسان عليه من التوجه إلى بارئه وبين شياطين الإنس وما يوحون به , وقد يسول الشيطان لمن أحس من نفسه زيادة فهم أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر السنة كان مثل العامة ولذلك لا بد من التنطع والتبدع والإتيان بالغرائب وهذه شهوات خفية لا يدركها ولا يبتعد عنها إلا العلماء الربانيون وقد قُمِعَت هذه الدعوة الكفرية بمواجهة علماء الإسلام لها، والمناداة عليها، وعلى منتحليها، بأنها كفر وردة عن الإسلام.

وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - مواقف إسلامية مشهورة خالدة، ولغيره من علماء المسلمين الذين ردوا على هؤلاء الغلاة، مثل الحلاج: الحسين بن منصور الفارسي، المقتول على الردة سنة 309، وابن عربي محمد بن علي الطائي، قدوة السوء للقائلين بوحدة الوجود، في كتابه: الفصوص، المتوفى سنة 638، وابن سبعين. ت سنة 669، والتلمساني. ت سنة 690، وابن هود. ت سنة 699، وغيرهم كثير.

إلى هنا ينتهي حديثنا اليوم ثم نكمل الحديث في المقال القادم بإذن الله تعالى حول أهم مصطلحات التصوف الفلسفي، الحلول ،الاتحاد، وحدة الوجود.

أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم

الكلمات الدلالية