الصوفية رؤية من الداخل (8) التصوف شبه الفلسفي

الصوفية رؤية من الداخل (8)  التصوف شبه الفلسفي
الاثنين ٢١ أغسطس ٢٠٢٣ - ١٦:٢٢ م
184

 

الصوفية رؤية من الداخل (8)

التصوف شبه الفلسفي

كتبه /إمام خليفه

الحمد لله وكفى , وسلام على عباده الذين اصطفى لا سيما عبده المصطفى , وآله المستكملين الشرفا, وبعد..

تكلمنا في المقال السابق عن وقفات مع التصوف السلوكي، واليوم بإذن الله تعالى نتكلم عن التصوف شبه السلوكي

مرحلة التَّصَوُّف شبه الفلسفي:

هذه المرحلة من التصوف هي امتداد لأفكار المرحلة الأولى وهو التصوف السلوكي، ولكنَّها تتميز عنها بأنَّها أخذت منحى آخر حيث اتجهت أفكارهم في التعمق في النفس بكشف أسرارها، والكلام عن معانٍ لم تكن معروفة قبل كالمقامات، والأحوال، والعشق، والشوق، والخوف، والحب، وَالْوَجْدُ، والغيبة، والفناء، والبقاء. وقد مال إلى النزعات الفلسفية، وزعم أن التَّصَوُّف في جوهره وسيلة إلى المعرفة والوصول إلى الحقائق

سمات هذه المرحلة يمكن تلخيصها في التالي:

- ابتعاد التَّصَوُّف شيئًا فشيئًا عن عقائد التوحيد وأصول أهل السنة والجماعة.

- تأثره بأصحاب الفلسفة وعلم الكلام.

- ظهور مصطلحات خاصة مثل المجاهدة، والذوق، والكشف، وسمُّوا ذلك العلم اللدني، وتطور المذهب ليصير مذهبًا منفردًا بنفسه في منهجه، ووسيلته، وغايته، وأصوله، وفروعه.

وقت هذه المرحلة:

استغرقت هذه المرحلة القرن الثَّالث والرابع الهجري، فظهرت النزعات الفلسفية، ولكن من غير اصطلاحات الفلاسفة وتعبيراتهم .

قال شيخ الإسلام: والشيوخ الأكابر الذين ذكرهم أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصُّوفيَّة، وأبو القاسم القشيري في الرسالة كانوا على مذهب أهل السنة والجماعة، ومذهب أهل الحديث كالفضيل بن عياض، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وعمرو بن عثمان المكي، وأبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي، وغيرهم وكلامهم موجود في السنة، وصنَّفوا فيها الكتب لكن بعض المتأخرين منهم كان على طريقة بعض أهل الكلام في بعض فروع العقائد، ولم يكن فيهم أحد على مذهب الفلاسفة، وإنَّما ظهر التفلسف في المتصوفة المتأخرين، فصارت المتصوفة على ثلاثة أقسام: تارة على طريقة صوفية أهل الحديث وهم خيارهم وأعلامهم وتارة على اعتقاد صوفية أهل الكلام فهؤلاء دونهم وتارة على اعتقاد صوفية الفلاسفة كهؤلاء الملاحدة .

ملاحظة:

 1- ليس معنى ذكر هذا القسم من التَّصَوُّف (التَّصَوُّف شبه الفلسفي) أن تلغي المرحلة التي قبله (التَّصَوُّف السلوكي)، بل قد يوجد هذا القسم مع الآخر، وأحيانًا يقوى أحدهما ويضعف الآخر.

2- سوف نذكر أهم من أثَّروا في تلك المرحلة عند ذكر التَّصَوُّف في القرن الثَّالث والرابع والخامس الهجري.

3- تميَّزت هذه المرحلة بظهور مصطلحات خاصة، لم تكن معروفة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم  ولا الصحابة وغالبها يكتنفها الغموض والخفاء.

أهم مصطلحات هذه المرحلة وتعريفاتها:

1-الْوَجْدُ، قد اختلفت عباراتهم في تعريف الْوَجْد. قال أبو سعيد بن الأعرابي: الْوَجْدُ رفع الحجاب، ومشاهدة الرقيب، وحضور الفهم، وملاحظة الغيب، ومحادثة السر، وإيناس المفقود، وهو فناؤك من حيث أنت. وقال - أيضًا-: الْوَجْدُ أول درجات الخصوص، وهو ميراث التصديق بالغيب، وقال: الذي يحجب عن الوجد رؤية آثار النفس والتعلق بالعلائق والأسباب؛ لأنَّ النفس محجوبة بأسبابها، فإذا انقطعت الأسباب، وخلص الذكر، وصحا القلب، ورقَّ وصفا، ونجحت الموعظة فيه، وحلَّ من المناجاة في محل قريب، وخوطب وسمع الخطاب بأذن واعية، وقلب شاهد، وسر ظاهر، فشاهد ما كان منه خاليًا، فذلك هو الْوَجْدُ؛ لِأَنَّهُ قد وجد ما كان معدومًا عنده. يقول الحلاج:

مَا الوجد إِلَّا خطرة ثُمَّ نظرة

                    تثير لهيبا بَين تِلْكَ السرائر

 

خطرة ذكر الله التي تفني الإنسان عند نفسه، فيتجلى له الله في نظرة حال فنائه عن نفسه. قَالَ عَمْرو بن عثمان المكي: لا يقع على كيفية الوجد عبارة؛ لأنه سر الله -تعالى- عند المؤمنين الموقنين.

قال القشيري: والوجد ما يصادف قلبك ويرد عليك بلا تعمد وتكلف ولهذا قال المشايخ: الوجد المصادفة، والمواجيد ثمرات الأوراد فكل من ازدادت وظائفه ازدادت من الله -تعالى- لطائفه.

2- الحب الإلهي: وهو الذي نشأ عند رابعة العدوية، ثم تطور حتى صار العشق الإلهي والحب الوجد، وشدة المناجاة، قادت إلى الافتراق، وهو الفرق بين الخالق والمخلوق، وإلى الجمع والدنو، ولا يكون إلا لأصحاب المواجيد.

3- السكر: وهو أن يغيب عن تمييز الأشياء ولا يغيب عن الأشياء، وهو أن لا يميز بين ما فيه ما يلذه وبين أضدادها في مرافقة الحق، فإن مرافقة الحق تجعله لا يميز بين ما يؤلمه ويلذه، فيذهب عنه التمييز بين الأرفق وضده، ويغلب عليه رؤية ما للحق من الصبر والشكر، فهو حال تبدو للعبد لا يمكنه معها ملاحظة السبب.

4- الصحو: هو رجوع العارف إلى الإحساس بعد غيبته وزوال الإحساس، والصحو الذي هو عقيب السكر، هو أن يميز فيعرف المؤلم من الملذ، فيختار المؤلم في موافقة الحق، ولا يشهد الألم بل يجد لذة في المؤلم.

5-الغيبة: هي أن يغيب عن حظوظ نفسه فلا يراها وهي- أي الحظوظ- قائمة معه موجودة فيه غير أنه غاب عنها بشهود ما للحق كما قال أبو سليمان الداراني وبلغه أنه قيل للأوزاعي رأينا جاريتك الزرقاء في السوق، فقال: أو زرقاء هي؟، أخبر أن غيبته عن زرقتها كانت مع بقاء لذة الحور فيه بقوله أو زرقاء هى، وغيبة أخرى وراء هذه وهي أن يغيب عن الفناء والفاني بشهود البقاء والباقي لا غير.

6- الفناء : فالفناء هو أن يفنى عنه الحظوظ فلا يكون له في شيء من ذلك حظ ويسقط عنه التمييز بين الأشياء كلها لتشاغله بما فنى به، كما قال عامر بن عبد الله ما أبالي امرأة رأيت أم حائطا والحق يتولى تصريفه فيصرفه في وظائفه وموافقاته، فيكون محفوظا فيما لله عليه مأخوذا عما له وعن جميع المخالفات فلا يكون له إليها سبيل، وقيل: الفناء حال من لا يشهد صفته بل يشهدها مغمورة بمغيبها وفناء البشـرية ليس على معنى عدمها، بل على معنى أن تغمد بلذة توفى على رؤية الألم واللذة الجارية على العبد في الحال كصواحبات يوسف عليه السلام{وقطعن أيديهن}[يوسف: 50] لفناء أوصافهم، ولما ورد على أسرارهن من لذة النظر إلى يوسف مما غيبهم عن ألم ما دخل عليهن من قطع أيديهن وفي النهاية قد تطورت هذه المصطلحات وقادتهم إلى القول بالفناء مرورًا بالحب والعشق الإلهي ليصبح المحب عين المحبوب إلى القول بالاتحاد، والحلول، ووحدة الأديان.

 يقول ابن الفارض:

فدهشت بين جماله وجلاله           وغدا لسان الحال عني مخبرا

فأدر لحاظك في محاسن وجهه       تلقى جميع الحسن فيه مصورا

ويقول عبد الغني النابلسي في ديوانه:

أنا النور المبين                      أنا الحق اليقين

أنا القرآن أتلى                       أنا الحبل المتين

أنا عرش التجلي                   أنا الروح الأمين

ويقول  أيضًا:

أنا صاحب الأمر والنهي         أنا آمر أبدا وناهي

أنا ذو العيون وذو الوجود       وذو النفوس بلا تناهي 

  قد أرسى الجنيد قواعد المذهب الصوفي ونظمه على نهاية القرن الثَّالث الهجري، فصار للصوفية مذهب له منهج ووسيلة وغاية؛ لذا يسمى الجنيد بـ سيد الطائفة.

إلى هنا ينتهي حديثنا اليوم ثم نكمل الحديث في المقال القادم بإذن الله تعالى حول التصوف الفلسفي وهو النوع الثالث من أنواع التصوف.

أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم

الكلمات الدلالية