الصوفية.. رؤية من الداخل (7) وقفات مع التصوف السلوكي

الصوفية.. رؤية من الداخل (7) وقفات مع التصوف السلوكي
الخميس ١٧ أغسطس ٢٠٢٣ - ١١:٠٠ ص
128

 

الصوفية.. رؤية من الداخل (7)

وقفات مع التصوف السلوكي

كتبه/ إمام خليفة

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى لا سيما عبده المصطفى، وآله المستكملين الشرفا، وبعد..

تكلمنا في المقال السابق عن أقسام التصوف حسب نشأته وتطوره وأهم ما يميزه .

 واليوم بإذن الله تعالى نتكلم عن وقفات مع التصوف السلوكي

وقفات مع التصوف السلوكي

أولًا- أكثر المتقدمين في هذه المرحلة من أصول غير عربية , فارسية وغيرها-وجاءوا من بيئات كانت تدين بالمجوسية أو غيرها قبل الإسلام فأحوالهم مشوبة بما استقر عندهم من رواسب دياناتهم التي كانوا عليها، وقد خلطوها بزهدهم وتصوفهم فأخرجت نماذج تشوبها البدع والغلو في العبادات والوقوع في مخالفة الكتاب والسنة، وهدي سلف الأمة.

ثانيًا- أن التَّصَوُّف لم يكن له علاقة بطلب العلم وفهم الكتاب والسُّنة.ولذا ظهر هذا الجنوح عن الكتاب والسنة وفهم الدليل وكلما طال الزمان زاد هذا الجنوح حتى أوصلهم في النهاية إلى التصوف الفلسفي.

ثالثًا- رواية الصُّوفيَّة وحكاياتهم عن مشايخهم على أنها كرامات في ظنهم أنها نتيجة ما وصلوا إليه من أكمل الأحوال، وأنه بهذه المجاهدات يدخل في أحوال من الكشوفات والكرامات، فهذا يدخل البادية بلا زاد ولا ماء، وآخر يلقى الخضر، وآخر يمشي على الفرات، ويدعون بذلك أنهم أكمل الخلق وأن صلتهم بالله فاقت ما عليه غيرهم.

رابعًا- هذا التعمق والتشدد في العبادات مع ترك المباحات لم يعهد عند السلف وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَأْكُلَ اللَّحْمَ ويحب الحلوويستعذب له الماء البارد، ولم يأمر صلى الله عليه وسلم أحدا من أصحابه بالخروج عن ماله، والتشدد في الدين کدوام الصيام، والقيام كما هو داء رهبان اليهود والنصاری، وترك التزوج وإدامة الجوع فيه شبه بالتبتل الذي ردَّه الرسول صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه، وبسبب هذه الرياضات فقد ابن عطاء الآدمي البغدادي عقله ثمانية عشر عامًا.

 وقال الذهبي معلقًا على ذلك: ثبت الله علينا عقولنا وإيماننا، فمن تسبب في زوال عقله بجوع، ورياضة صعبة، وخلوة، فقد عصى وأثم، وضاهى من أزال عقله بعض يوم بسكر. فما أحسن التقيد بمتابعة السنن والعلم.

وأما السياحة في البراري، فهي من السياحة المنهي عنها، وهي من الرهبانية المبتدعة، وكأنهم لم يسمعوا بالحديث الذي رواه أبو داود، عن أبي أمامة أن رجلا قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ».

يقول ابن تيمية: وأما السياحة التي هي الخروج في البرية لغير مقصد معين فليست من عمل هذه الأمة، ولهذا قال الإمام أحمد: ليست السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين ولا الصالحين وهي من الرهبانية المبتدعة التي قيل فيها «لا رهبانية في الإسلام» .

خامسًا- إن السلف عندما فهموا الإسلام فهمًا صحيحًا لم يتعمقوا ويشددوا على أنفسهم، فهذا سيد التابعين سعيد المسيب يقول له مولاه برد: ما رأيت أحسن ما يصنع هؤلاء، قال سعيد: ما يصنعون؟ قال: يصلي أحدهم الظهر ثُمَّ لا يزال صافًا رجليه يصلي حتى العصر، قال سعيد: ويحك يا برد، أما والله ما هي بالعبادة، تدري ما العبادة؟ إنَّما العبادة التفكر في أمر الله والكف عن محارم الله، إن هذا الجسد مطية للنفس، فإذا لم تعط هذه المطية حقها لم تستطع أن تحمل النفس بآمالها الكبيرة.

 إنَّ الوصول إلى العبادة لا يكون إِلَّا بحفظ البدن، ومجرد ترك الدنيا ليس في كتاب الله ولا سنة نبيه، وما فيه ضرر في الدنيا مذموم إذا لم يكن نافعًا في الآخرة.

سادسًا- إن الزهد الحقيقي هو الزهد في الدنيا حتى يستوي عنده ذهبها وترابها، والزهد في مدح الناس أو ذمهم، فمن كان هكذا فهو من أطباء القلوب، فإن بدا منه ما يخالف الشريعة ردت عليه بدعته. ولكن عندما يحدث الزهد غير المشروع، والتبتل، والجوع، وترك اللحم، والاقتصار على كسرة الخبز، وشربة الماء، وعندئذ تلزمه خطرات النفس، ويسمع أشياء تتولد عن الجوع والسهر، ربما أدَّى به إلى أمراض نفسية.

وقد مدح الخليفة العباسي المنصور عمرو بن عبيد المعتزلي على زهده وقد كان عمرو محظيًا عند أبي جعفر المنصور، كان المنصور يحبه ويعظمه؛ لِأَنَّهُ كان يفد على المنصور مع القراء فيعطيهم المنصور فيأخذون، ولا يأخذ عمرو منه شيئًا، وكان يسأله أن يقبل كما يقبل أصحابه فلا يقبل منه، فكان ذلك مما يغر المنصور ويروج به عليه حاله؛ لأنَّ المنصور كان بخيلًا وكان يعجبه ذلك منه وينشد:

كُلُّكُمْ يَمْشِي رُوَيْدْ * كُلُّكُمْ يَطْلُبُ صَيْدْ * غَيْرَ عَمْرِو بْنِ عبيدْ.

 قال ابن كثير: ولو تبصر المنصور لعلم أن كل واحد من أولئك القراء خير من ملء الأرض مثل عمرو بن عبيد، والزهد لا يدل على صلاح، فإن بعض الرهبان قد يكون عنده من الزهد ما لا يطيقه عمرو ولا كثير من المسلمين في زمانه .

سابعًا- قد يظن العوام الذين يرون عبادة هؤلاء أنَّها أفضل من الصحابة؛ لِأَنَّهُم لم يسمعوا أن الصحابة كانوا يفعلون مثل هذا، والناس يعجبون من الغرائب والتشدد، ولا يعلمون أن الشريعة جاءت بالطريق الأوسط الأعدل، وقلة العلم بالآثار والسنة هي التي أوصلت بعض هؤلاء إلى ذلك، وظنوا أن القصد من الشريعة هو العمل ولذلك فلا داعي للعلم، وإذا كان من الصعب تكامل الشخصية الإسلامية على مستوى جيل کما وجد الصحابة فلا أقل من اقتفاء آثارهم ما أمكننا ذلك ولا نتطرق في ناحية دون أخرى.

 ثامنًا- في هذه المرحلة المبكرة يبدو أن هناك تأثيرًا للنصارى في تكوين القناعات بتعذيب الجسد کی تصفو الروح.

روى أحمد بن الحواري قصة لقائه براهب دير حرملة حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: قلت لراهب في دير حرملة، وأشرف من صومعته: ما اسمك؟ قال: جريج. قلت: ما يحبسك؟ قال: حبست نفسي عن الشهوات. قلت: أما كان يستقيم لك أن تذهب معنا ههنا، وتجيء، وتمنعها الشهوات؟ قال: هيهات! هذا الذي تصفه قوة، وأنا في ضعف. قلت: ولم تفعل هذا؟ قال: نجد في كتبنا أن بدن ابن آدم خلق من الأرض، وروحه خلق من ملكوت السماء، فإذا أجاع بدنه وأعراه وأسهره وأقمأه نازع الروح إلى الموضع الذي خرج منه، وإذا أطعمه وأراحه أخلد البدن إلى الموضع الذي منه خلق، فأحب الدنيا. قلت: فإذا فعل هذا يعجل له في الدنيا الثواب؟ قال: نعم، نور يوازيه. قال: فحدثت بهذا أبا سليمان الداراني، فقال: قاتله الله إنهم يصفون.

قال الذهبي: الطريقة المثلى هي المحمدية، وهو الأخذ من الطيبات، وتناول الشهوات المباحة من غير إسراف كما قال-تعالى-: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51] وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَقُوْمُ وَأَنَامُ، وَآتِي النِّسَاءَ، وَآكُلُ اللَّحْمَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مني» .

وحبب إليه صلى الله عليه وسلم الطيب والنساء، وقد كان يحب اللحم والحلواء والعسل والشراب الحلو البارد والمسك، وهو أفضل الخلق، وأحبهم إلى الله -تعالى- فمن عدل عن السنة المحمدية إلى ترهب الديور والصوامع ومن قفى أثرهم وترك الطيب والنساء واللحم ونحوها من الحلو أو العسل الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، ، وترفه وتصنع في المأكل والمشرب، وتزين في الملبس والمركب وبطر وأشر، فلا الإمعان في الطيبات والتكالب عليه بمحمود، ولا هجرها رأسا بمشكور، اللهم اهدنا الصراط المستقيم، والسلوك القويم هو القائم على الورع في القوت، والورع في المنطق، وحفظ اللسان، وملازمة الذكر، وترك مخالطة العامة، والبكاء على الخطيئة، والتلاوة بالترتيل والتدبر، ومقت النفس وذمها في ذات الله، والإكثار من الصوم المشروع، ودوام التهجد، والتواضع للمسلمين، وصلة الرحم والسماحة، وكثرة البشر، والإنفاق مع الخصاصة، وقول الحق المر برفق وتؤدة، والأمر بالعرف، والأخذ بالعفو، والإعراض عن الجاهلين، والرباط بالثغر، وجهاد العدو، وحج البيت، وتناول الطيبات في الأحايين، وكثرة الاستغفار، في السحر، فهذه شمائل الأولياء، وصفات المحمديين.

تاسعًا- إن أهل هذه الطبقة الصُّوفيَّة صادقون في زهدهم وبعدهم عن الدنيا، ولكن فيهم تعمق وتشدد ووساوس لم يأمر بها الشارع بل لا يحبها، فلا تستبعد أن يكون هناك من يريد إفساد عقائد المسلمين بإدخال العقائد الباطنية ويكون فعله هذا من وراء ستار كما أخذوا التشيع بالمعنى السياسي، وأدخلوه في دهاليز الباطنية، ولذلك يندر منهم أحيانًا كلمات تجعلنا نتوقف عندها طويلًا كما يروى عن الجنيد أنه قال للشبلي: نحن حبَّرنا هذا العلم تحبيرًا ثُمَّ خبأناه في السراديب، فجئت أنت فأظهرته على رُؤُوس الْمَلأ .

وعن الجنيد، قال: ما أخرج الله إلى الأرض علما وجعل للخلق إليه سبيلا، إلا وقد جعل لي فيه حظا. ويروى أن بعض المتكلمة أتوا الجنيد، فسألوه عن التصوف، فقال: هو إفراد القديم عن الحدث، والخروج عن الوطن، وقطع المحاب، وترك ما علم أو جهل، وأن يكون المرء زاهدا فيما عند الله، راغبا فيما لله عنده، فإذا كان كذلك، حظاه إلى كشف العلوم، ، وعلم السرائر، وفقه الأرواح. وعن الجنيد قال: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل، لكن عن الجوع وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات.

قال الذهبي: هذا حسن، ومراده: قطع أكثر المألوفات، وترك فضول الدنيا، وجوع بلا إفراط. أما من بالغ في الجوع -كما يفعله الرهبان- ورفض سائر الدنيا ومألوفات النفس من الغذاء والنوم والأهل، فقد عرض نفسه لبلاء عريض، وربما خولط في عقله، وفاته بذلك كثير من الحنيفية السمحة. وقال الجنيد: انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة. وقال ذو النون: غاية العارفين التحير.

قال شيخ الإسلام: لم يمدح الحيرة أحد من أهل العلم والإيمان، ولكن مدحها طائفة من الملاحدة، كصاحب الفصوص ابن عربي وأمثاله من الملاحدة الذين هم حيارى، فمدحوا الحيرة وجعلوها أفضل من الاستقامة، وادعوا أنهم أكمل الخلق، وأن خاتم الأولياء منهم يكون أفضل في العلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله منهم، وكانوا في ذلك كما يقال فيمن قال: { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ } [النحل: 26] لا عقل ولا قرآن، فإن الأنبياء أقدم فكيف يستفيد المتقدم من المتأخر، وهم عند المسلمين واليهود والنصارى أفضل من الأولياء؟ فخرج هؤلاء عن العقل والدين .

هذه هي حال الطبقة الأولى فيها زهد مشروع خلط بغير المشروع مع أن أحوالهم في العبادة والأذكار، والبعد عن الرياء أحوال عالية، ثُمَّ تطور الأمر بعد هذا بإدخال مصطلحات فيها حق وباطل، أو تحتمل هذا وذاك، وزاد الانحراف، واتسعت الفرجة، والبُعدِّ عن السُّنة.

إلى هنا ينتهي حديثنا اليوم ثم نكمل الحديث في المقال القادم بإذن الله تعالى حول التصوف شبه الفلسفي وهو النوع الثاني من أنواع التصوف

 

أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم

الكلمات الدلالية