9 - باب في الرّجل يذكر اللّه تعالى على غير طهرٍ.

9 - باب في الرّجل يذكر اللّه تعالى على غير طهرٍ.
الخميس ٢٥ مايو ٢٠٢٣ - ٠٩:١١ ص
84

9 - باب فِي الرَّجُلِ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى غَيْرِ طُهْرٍ. 

معني عنوان الباب: بعد أن ذكر عنوان الباب السابق الذي فيه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يردّ السلامَ إلَّا بعدما توضأ أو تيمم.  ذكر هنا جواز ذكر الله تعالى على غير طهارة، باستثناء وقت قضاء الحاجة ووقت الجماع. 

    وفي عنوان هذا الباب ذكر كلمة  الرجل، ولا مفهوم له، بمعنى: أنَّ حكم المرأة لا يُخالف حكم الرجل، بل حكم الرجل والمرأة واحد في جواز ذكر الله تعالى على غير طهارة، وهذا الحكم هو للرجال والنساء، ولكن ذكر الرجل في عنوان الباب ويأتي ذكرهم في الأحاديث بلفظ الرجل أو الرجال؛ لأنَّ الغالب أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يُخاطب ويتكلم مع الرجال، والأصل هو تساوي النساء والرجال في الأحكام، إلَّا إذا جاء حكم يخصُّ الرجال دون النساء، أو جاء حكم  يخصُّ النساء دون الرجال، فعند ذلك يصار إلى التفريق، أما إذا لم يأتِ تفريق أو شيء يدل على أن هذا خاص بالرجال أو هذا خاص بالنساء، فالأصل هو التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام.              

18 - عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ. [حكم الألباني: صحيح.]

معاني المفردات:

أَحْيَانِهِ: والأحيان: جمع حين، وهو الوقت، كما تقول: حان حينه، أي: آن وقته.

والمعني: أي يذكر الله سواءً طاهر أو غير طاهر، لكن ليس في حال قضاء الحاجة والجماع.

فقه الحديث: يدلّ الحديث على:

1- ما جاء في الباب الذي قبله أنَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم لم يحصل منه ردّ السلام إلَّا بعد الوضوء أو التيمم، وهذا فيه إشارة إلى الأكمل، وليس من قبيل التحريم، وإنما الأولى والأفضل والأكمل أن يكون الذكر على طهارة، وفي هذا الباب إشارة إلى جواز ذكر الله علي غير طهارة وعدم الحرج، وأنه لا بأس بذلك.

2- يجوز ذكر الله علي غير طهارة بدليل أنَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم كان إذا قضي حاجته وخرج من الخلاء قال: "غفرانك" وهذا يكون قبل الوضوء، وكذلك التسمية قبل الوضوء، إذن يجوز للإنسان أن يذكر الله عز وجل على غير طهارة.

3- والذكر في الحديث عام يشمل قراءة القرآن، فهل يصح للمُحدِث حدثًا أصغر أن يقرأ القرآن؟ 

قال النووي في المجموع: "أجمع المسلمون على جواز قراءة القرآن للمحدث، والأفضل أن يتطهر لها". ا.هـ 

 وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن وهو محدث حدثًا أصغر، استدل على ذلك بعض أهل العلم بما ثبت عن ابْنٍ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ خَالَتُهُ – قال : فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي" رواه البخاري

4- والذكر عام يشمل جميع أنواعه من تهليل وتكبير وتحميد وتسبيح واستغفار ومثله الصلاة والسلام على البنى صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا كَانَ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ لَا يَمْنَعُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَفْضَلُ الذِّكْرِ كَانَ جَوَازُ مَا عَدَاهُ مِنْ الْأَذْكَارِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وهذا مشروع بإجماع المسلمين، وكذلك الآذان يصحُّ أن يؤذن بدون وضوء.

 يُستثنى من ذلك أوقات منها:

أولًا: أوقات لم يختلف العلماء فيها: وهي حال الجماع وحال قضاء الحاجة وفي محل القاذورات.

ثانيًا: أوقات أختلف العلماء فيها وهي:

* قراءة القرآن حال الجنابة للرجل والمرأة دون مس المصحف:

اختلفَ أهلُ العِلمِ في حكمِ قراءةِ القُرآنِ للجُنُبِ على أقوالٍ، أقواها قولان:

القول الأول: تحرُمُ على الجنُبِ قراءةُ القُرآنِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة والمالكيَّة والشَّافعيَّة والحنابلة، وبه قال أكثرُ أهلِ العِلمِ.

الأدلَّة:

أولًا: من الآثار:

- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلِمَةَ قَالَ: أَتَيْتُ عَلِيًّا أَنَا وَرَجُلَانِ، فَقَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ مِنْ الْخَلَاءِ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَيَأْكُلُ مَعَنَا اللَّحْمَ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْجُبُهُ عَنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَيْسَ الْجَنَابَةَ) أي: غير الجنابة. وفي لفظ: (لَا يَحْجُزُهُ عَنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلَّا الْجَنَابَةُ) 

وهذا الحديث مما تنازع العلماء في صحته.

- عن عَبِيدَة السَّلمانيِّ قال: (كان عمرُ بن الخطَّاب يَكره أن يَقرأ القرآنَ وهو جُنُب)

- عن أبي الغَريفِ الهَمْدانيِّ قال: (كنَّا مع عليٍّ في الرَّحَبة، فخرج إلى أقصى الرَّحَبة، فوالله ما أدري أبولًا أحدَثَ أو غائطًا، ثم جاء فدعا بكوزٍ من ماءٍ، فغسل كفَّيه ثم قبَضَهما إليه، ثم قرأ صدرًا مِن القرآنِ، ثم قال: اقرَؤوا القرآنَ ما لم يُصِبْ أحدَكم جنابةٌ، فإنْ أصابَتْه جنابةٌ فلا، ولا حرفًا واحدًا)

ثانيا: لأنَّ الجنابةَ أغلَظُ الحَدَثينِ، فيكون قول عائشة رضي الله عنها كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ. فيراد بذكر الله غير تلاوة القرآن.

القول الثاني: تجوزُ قراءةُ القُرآنِ للجُنب، وهو مذهَبُ الظاهريَّة وقولُ بَعضِ السَّلَفِ، واختاره البخاريُّ والطبريُّ وابنُ المُنذِر، والشَّوكاني. 

الأدلَّة:

أولًا: مِن السُّنَّةِ

عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها "أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يذكُرُ اللهَ على كلِّ أحيانِه" 

وجهُ الدلالة:

أنَّ القرآنَ ذِكرٌ، فيدخُلُ في عمومِ هذا الحديثِ.

ثانيًا: من الآثار: 

عَنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ( أنَّه كان يقرأُ وِردَه وهو جُنُبٌ) 

ثالثًا: أنَّ الأصلَ عَدَمُ التَّحريمِ.

الراجح: الأحوط القول بمنع الجنب قراءة القرآن؛ ليُبادر بالاغتسال.

*قراءة الحائض للقرآن الكريم:

اختلف العلماء في جواز قراءة الحائض للقرآن عن ظهر قلب دون مسّ المصحف على قولين.

القول الأول: عدم الجواز وعليه أكثر العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة واستدلوا بحديث ابن عمر –رضي الله عنهما- الذي رواه الترمذي أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم- قال "لا تقرأ الحائض ولا الجُنُب شيئًا من القرآن". وقد ضعف العلماء هذا الحديث. وقال أحمد شاكر: هو من قول ابن عمر.

القول الثاني: الجواز وقال به مالك وأحمد في رواية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ورُوي عن البخاري وإبراهيم النخعي وابن عبَّاس والطَّبريّ وابن المسيب والظاهرية وغيرهم. 

واستدلوا بأن الرسول – صلى الله عليه وسلم- بعث كتابًا إلى ملك الروم وهو كافر يدعوه فيه إلى الإسلام وقد اشتمل الكتاب على آيات قرآنية ومنها قوله تعالى:

 "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألَّا نعبد إلا الله.."

فإذا جاز للكافر قراءة القرآن فالمسلم أولى أن يقرأه عن ظهر قلب ولو كان مُحدثًا حدثًا أصغر أو أكبر كالحائض.

-وكذا حديث السيدة عائشة –رضي الله عنها- الذي رواه مسلم وفيه: "أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان يذكر الله على كل أحيانه. والذكر نص عام يدخل في معناه قراءة القرآن.

-كما احتجوا بحديث السيدة عائشة لما حاضت في الحج. والذي رواه البخاري فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: "اصنعي ما يصنع الحاج غير أنكِ لا تطوفي بالبيت حتى تطهري"

ولا يخفى أنَّ السماح لأم المؤمنين أن تقوم بمناسك الحج غير الطواف، يعني السماح لها بالذكر والدعاء. وهذا قد يشتمل على آيات من الذكر الحكيم. قال شيخ الاسلام: قراءة الحائض للقرآن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء. غير الحديث المروي عن إسماعيل بن عياش، وهو ضعيف.

وقال: ومعلوم أنَّ النساء كنَّ يَحُضنَ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يَنهَاهُنَّ عن قراءة القرآن كما لم يكن يَنهَاهُنَّ عن الذكر والدعاء.

فالراجح: جواز قراءة الحائض للقرآن ولا يصح قياس الحائض على الجُنُب، والفرق بينهما أنَّ الجُنُب يمكنه أن يتلافى هذا المانع من قراءة القرآن فيغتسل بخلاف الحائض فإنَّ حيضها ليس بيدها.

5- دلّ الحديث على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله تعالى مُتطهرًا ومُحدثًا حدثًا أكبر أو حدثًا أصغر وكان يذكر الله تعالى قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا وماشيًا وراكبًا، قال الله تعالى {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: الَّذِينَ لَا تَزَالُ أَلْسِنَتُهُمْ رَطْبَةً مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، يَدْخُلُ أَحَدَهُمَا الْجَنَّةَ وَهُوَ يَضْحَكُ.

6- وفيه التنبيه على الاهتمام بذكر الله تعالى في جميع الأوقات الممكنة؛ وذلك لأنه أعظم وسيلة إلى حصول الخير في الدنيا والآخرة، فدَوَام ذكر الله عز وجل لمن أفضل الأعمال، فقد كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَذكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُلِّ أَحيَانِهِ. وهذا خلاف حال المنافقين الذين قال الله تعالى في وصفهم: (لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) فمن أكثر ذكر الله، فقد باينهم في أوصافهم، ولهذا ختمت سورة المنافقين بالأمر بذكر الله، وألَّا يُلهي المؤمن عن ذلك مال ولا ولد، وأنَّ مَن ألهاه ذلك عن ذكر الله، فهو من الخاسرين.

7- فضل النبي صلى الله عليه وسلم في كثرة ذكره لربه عز وجل وحرصه على ذلك عملًا بقوله تَعَالَى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}

8- فذكر الله هنا مطلق لا يتقيد بعدد، بل هو إلى الإنسان على حسب نشاطه.

والنوع الثاني: ذكر مقيد بعدد، أو في حال من الأحوال، وهو كثير، منها أذكار الصلوات في الركوع والسجود وبعد السلام، وأذكار الدخول للمنزل، والخروج منه، وأذكار الدخول للمسجد والخروج منه، وأذكار النوم والاستيقاظ وأذكار الركوب على الدابة وأشياء كثيرة شرعها الله عز وجل لعباده من أجل أن يكونوا دائمًا على ذكر الله عز وجل، فالمهم أنَّ الله شرع لعباده من الأذكار ما يجعلهم إذا حافظوا عليها يذكرون الله، قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم.

9- واعلم أنَّ الذكر أيضًا يكون على وجهين: ذكر تام: وهو ما تواطأ عليه القلب واللسان.

وذكر ناقص: وهو ما كان باللسان مع غفلة القلب، وأكثر الناس_ نسأل الله أن يعاملنا جميعًا بعفوه_ عندهم ذكر الله باللسان مع غفلة القلب، فتجده يذكر الله وقلبه يذهب يمينًا وشمالًا، في ماله وسيارته وفي بيعه وشرائه.

لكن هو مأجور على كلِّ حالٍ، ولكن الذكر التام هو الذي يكون ذكرًا لله باللسان وبالقلب، يعني أنك تذكر الله بلسانك وتذكر الله بقلبك، فأحيانًا يكون الذكر بالقلب أنفع للعبد من الذكر المجرد، إذا تفكر الإنسان في نفسه وقلبه، في آيات الله الكونية والشرعية، بقدر ما يستطيع، حصل على خير كثير.

10- قوله عائشة رضي الله عنها: عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ، حتى حالة التغوط والجماع فإنه وإن كان الذكر اللساني منهيًا عنه عند ذلك لكن لا شُبهة في حُسن الذكر القلبي، فيتفكر في قدرة الله أثناء التغوط أو الجماع، فحينئذ يكون عموم قول عائشة رضي الله عنها "كل أحيانه" شاملًا لجميع أحيانه لا يُستثنى منه حين، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان دائمَ الذكر، لا ينقطع ذكره القلبي في يقظة ولا نوم ولا في وقت ما، لأنه - صلى الله عليه وسلم –قَالَ: «تَنَامُ عَيْنِي وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي» رواه البخاري، والحقيقة أنَّ القلب اليَقِظَ يذكر الله في كل شيء لأنه لا يرى شيئًا إلا وهو من آيات الله عز وجل.

11- ويمكن أن يُقال والمراد بكل أحيانه أي معظمها، فيُستثني بعض الأوقات.

أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم

الكلمات الدلالية