شهادة المرأة.. الحكم والأحكام.. بحث مختصر (2 – 2)

شهادة المرأة.. الحكم والأحكام.. بحث مختصر (2 – 2)
الخميس ١٦ يونيو ٢٠٢٢ - ١٣:٣٨ م
1665
 

شهادة المرأة.. الحكم والأحكام.. بحث مختصر (2 – 2)

كتبه/ وائل سرحان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم،، أما بعد.

الجزء الثاني: أحكام شهادة المرأة.

الفصل الأول: مباحث تمهيدية

المبحث الأول: هل شهادة المرأة أصل أم بدل؟

هل شهادة المرأة أصل يعتمد عليه أم بدل يصار إليه عند الضرورة؟ للفقهاء رأيان في هذه المسألة:

الرأي الأول: الأصل في شهادة النساء القَبول، سواء وجِد الرجال أو عدموا؛ لوجود ما تبتنى عليه أهلية الشهادة وهو: المشاهدة والضبط والأداء، والآية تتناول حالة وجود الرجال وعدم وجودهم، ولكن شهادة النساء تعتريها شبهة البدلية الشكلية لا الحقيقية؛ لقيامها مقام شهادة الرجال مع إمكان العمل بشهادتهم؛ ولأن البدل الحقيقي لا يصار إليه مع القدرة على الأصل غالبًا، فلو كانت حقيقية لكان العمل بها عند عدم وجود الرجال.

الرأي الثاني: شهادة النساء مع الرجال وشهادتهن منفردات شهادة ضرورة لا أصل، فهي بدل تقوم مقام شهادة الرجل للضرورة؛ فالأصل فيها عدم القَبول؛ لذا لا تقبل شهادتهن في الحدود، وإنما قبلت في الأموال وتوابعها للضرورة فحسب؛ لأن النساء- كما قيل- يتصفن بنقصان العقل وقصور الولاية واختلال الضبط، فلا يصلحن لأداء الشهادة في الأمور الخطيرة. وهذا ما ذهب إليه الشافعية والمالكية.

وأجيب عن الرأي الثاني: أن التعليل بعدم قَبولها لنقصان العقل واختلال الضبط، ينجبر بضم الأخرى إليها، فلم يبق بعد ذلك إلا الشبهة فلهذا لا تقبل فيما يندرئ بالشبهات، وليست الأموال موضع شبهة حتى لا نجعل شهادة النساء فيها أصلاً، وقدمت شهادة الرجال على شهادة النساء امتثالاً للآية.

المبحث الثاني: تحرير محل النزاع بين العلماء في شهادة النساء:

اتفق العلماء على قَبول شهادة النساء منفردات في الجملة.

واتفقوا على قَبول شهادة المرأتين مع الرجل، في الأموال وما يئول إلى مال.

واختلفوا في علة جواز شهادة النساء منفردات، وفي الحالات التي يمكن أن تقبل فيها شهادتهن منفردات، كالحدود والقصاص والأموال، وبعض من أحكام الأبدان كالرضاع والاستهلال.

واختلفوا كذلك في نصاب شهادة النساء منفردات.

واختلفوا أيضًا في تحديد المقصود من عيوب النساء وما لا يطلع عليه الرجال، والمواضع التي تندرج تحت مسمى عيوب النساء.

واختلفوا في جواز القضاء بالمرأتين واليمين.

المبحث الثالث: نصاب شهادة النساء منفردات:

أي العدد المطلوب توفره، لاكتمال الشهادة به، وقد اختلفوا فيه، على أقوال:

القول الأول: تقبل شهادة امرأة واحدة فيما تقبل فيه النساء منفردات، إذا كانت حرة، مسلمة، عدل.

وهو قول: الحنفية، وأحمد في رواية، وقالوا إن شهادة اثنتين أحوط، وقال الحنفية أن الثلاث أحب إلى الله، وبالأربع يخرج من الخلاف، وصح هذا القول عن ابن عباس، وروي عن عثمان، وعلي، وابن عمر، والحسن البصري، والزهري.

القول الثاني: يكفي شهادة امرأتين فيما لا يطلع عليه إلا النساء. وهو قول الإمام مالك، وابن أبي ليلى، والحكم بن عتيبة، وأبو عبيد والثوري، وهو رواية عن الإمام أحمد.

القول الثالث: لا يقبل فيما يقبل فيه النساء منفردات إلا ثلاث نسوة، لا أقل من ذلك، وهو قول أنس بن مالك وعثمان البتي.

القول الرابع: لا يجوز في شهادة النساء منفردات أقل من أربع نسوة. وهو مذهب الشافعية والظاهرية، ومروي عن قتادة، وعطاء وابن شبرمة، والشعبي والنخعي في رواية عنهما.

أدلة القول الثاني:

(1) جميع النصوص الشرعية الواردة في موضوع الشهادة، نصت على العدد في الشهادة، فإذا كان العدد مشروطًا في الشهادة الأصلية، وهي شهادة الرجلين، وشهادة النساء مع الرجال، فمن الأَولى أن يشترط العدد في شهادة النساء منفردات، وقَبول شهادة الواحدة مناف لمقاصد الشريعة.

(2) اشتراط أكثر من اثنتين في شهادة النساء منفردات يوقع في الحرج والمشقة ويؤدي إلى ضياع كثير من الحقوق.

(3) اشتراط أكثر من اثنتين، يفتح البال للنظر إلى عورات النساء، والستر أولى، لذا يكتفى بشهادة اثنتين ثقات.

(4) الشرع الحكيم لم يقبل شهادة الرجل الواحد، مع أنها أقوى من شهادة المرأة، فمن باب أولى عدم الاكتفاء بالواحدة، وهي أضعف.

المبحث الرابع: شهادة المرأة في أحكام الأبدان:

يقسم بعض الفقهاء شهادة النساء إلى شهادتها في الأموال، وشهادتها في العقوبات، وشهادتها فيما سوى العقوبات والأموال، ويقصدون بذلك ما كان اختصاص مشاهدته وسماعه للرجال غالبًا (كالأحوال الشخصية وما إليها)، مثل: النكاح والرجعة، والطلاق، والإسلام، والردة، والجرح، والتعديل، والموت، والإعمار، والإيلاء، والظهار، والنسب، والولاء، والكتابة، والوصية، والوكالة، إذا لم تكونا بمال، وأشباه ذلك، مثل: الإقرار بالرضاع، ونحوه..

وهذه تنقسم إلى حقوق يطلع عليها الرجال غالبًا، وحقوق تطلع عليها النسوة كذلك، وسيأتي تفصيل ذلك، إن شاء الله.

وقد يعبرون عن ذلك بأحكام الأبدان (وهي كل حكم يتعلق بالبدن، مما ليس مالاً ولا يؤول إلى مال) واللفظ أعم من مرادهم، فيخرجون منها العقوبات.

ولا خلاف بين الفقهاء على أنه لا تجوز شهادة الكافر والكافرة على المسلم أو المسلمة في هذه الحقوق. ولا خلاف بينهم أيضا على شهادة المسلم جائزة على الكافر والكافرة في هذه الحقوق وغيرها من الحقوق الأخرى.

وإنما الخلاف عندهم في شهادة النساء المسلمات العدل الحرات في هذه الحقوق، وذلك له حالان:

الأولى: حكم شهادة النساء المسلمات العدل الحرات مع الرجال المسلمين العدل الأحرار، فيما سوى العقوبات والأموال.

الثانية: حكم شهادة النساء منفردات فيما سوى العقوبات والأموال.

وبيان ذلك كما يلي:

اتفق الفقهاء على قبول شهادة المرأتين مع الرجل عملاً بالآية الكريمة، واتفقوا على حالات تقبل فيها شهادة المرأتين والرجل، وحالات اختلفوا فيها، هل تثبت بالرجل والمرأتين أم لا؟

وبيان ذلك فيما يأتي:

(1) اتفق الفقهاء على جواز القضاء بشهادة المرأتين مع الرجل في الأموال، كالمُداينات، وما يؤول إلى مال، كالبيع والوقف والإجارة والهبة والصلح والمُساقاة والمضاربة والشركة وغيرها مما يقصد به المال، ودليلهم ورود شهادة المرأتين مع الرجل في آية الدين.

(2) لكنهم اختلفوا في أحكام الأبدان هل تجزئ فيها امرأتان مع رجل أم لا بد من رجلين فقط، على قولين:

القول الأول: تجوز شهادة المرأتين مع الرجل في أحكام الأبدان.

وهو قول الحنفية إلا الردة فيها، فلا يقبل فيها إلا شهادة رجلين مسلمين عدل على الأقل.

وهو أيضًا الرواية الثانية عن أحمد في النكاح والرجعة والعتق، لأنها لا تسقط بالشبهة أشبهت المال، ولأن العبد المعتوق ماله.

وهو قول الظاهرية، وروي ذلك عن جابر بن زيد، وإياس بن معاوية، والشعبي، والثوري، وإسحاق، وأجاز ابن حزم شهادة النساء في سائر الحقوق.

القول الثاني: لا تجوز شهادة المرأتين مع الرجل في أحكام الأبدان، ولا يثبت ذلك إلا بشهادة رجلين فقط.

وهو قول الجمهور من المالكية والشافعية، وهو قول الحنابلة إلا النكاح والرجعة والعتق، ففيها روايتان للإمام أحمد: الأولى، مثل هذا القول، وهو الصحيح عندهم".

، وهو قول النخعي، والزهري، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري وربيعة في الطلاق.

سبب الخلاف:

هو اختلافهم في دلالة النصوص الشرعية من الكتاب والسنة الوارد فيها لفظ الشاهد والشهادة، فهل لفظ الشاهد يشمل المذكر والمؤنث؟ أم يقتصر على المذكر فقط؟

وهل لفظ الشهادة مطلق فيشمل جميع المواضع، أم مقيد في موضع معين كما يقتضيه سياق النص؟

أدلة القول الأول: عموم الآيات والأحاديث فتشمل الرجل والمرأة وتشمل الأموال وسائر الأحكام، وتقاس أحكام الأبدان على الأموال بجامع عدم سقوطها بالشبهات.

واستدلوا بآثار كثيرة وردت عن الصحابة والتابعين تدل على ذلك، منها ما ورد عن قمر في قبول شهادة المرأتين مع الرجل في النكاح ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر من الصحابة، فكان إجماعا منهم على الجواز. كما أجاز عمر شهادة النساء في الطلاق. فإذا أجيزت شهادة النساء في الطلاق وحدهن، فمن باب أولى أن تقبل مع الرجال.

واستدلوا بالمعقول، من أن شهادة رجل وامرأتين في إظهار المشهود به مثل شهادة رجلين؛ لرجحان جانب الصدق فيها على جانب الكذب، وأن الأصل في شهادة المرأة القَبول لوجود ما يبنى عليه أهلية الشهادة وهي الولاية، وتقبل شهادة المرأة في ذلك فهي من أهل الشهادة؛ لوجود المشاهدة والحفظ والأداء كالرجل، لهذا قُبلت رواية النساء لأحاديث الأحكام المُلزِمة للأمة.

مناقشة الأدلة

وأما الاستدلال بالإجماع وبآثار الصحابة، فإنها معارضة بآثار أخرى تدل على عدم قَبول شهادة النساء مع الرجال في الأبدان، فقد ورد عن عمر وعلي أنهما قالا: "لا تجوز شهادة النساء في الطلاق ولا النكاح ولا الدماء ولا الحدود". وعن الزهري أنه قال: "لا تجوز شهادة النساء في حد ولا نكاح ولا طلاق".

وقد ورد عند البيهقي أن رواية عمر في إجازة شهادة المرأتين مع الرجل منقطعة، مما يرد دعوى الإجماع.

أما عموم الكتاب فمردود بما ورد في معناه، والآية خاصة بالأموال، ولا يصح استعمال العموم فيها، فآخر الآية مرتبط بأولها

 أما ما ورد في السنة جاء الشاهد بلفظ المذكر فيقتصر عليه.

أما قياس الأبدان على الأموال، فالأبدان أعلى من الأموال فلا يقبل فيها ما يقبل في الأموال، ونظيره أن الحدود أعلاها الزنا وأدناها السرقة، ولم يقبل في أحدهما ما يقبل في الآخر.

ولأن النكاح آكد من الأموال؛ لاشتراط الولاية فيه، ولم يدخله الأجل والخيار والهبة، كما أنه يصح الإبراء في الأموال، ولا يكون ذلك في النكاح.

أدلة القول الثاني: قوله تعالى في الطلاق (واشهدوا ذوي عدل منكم) [الطلاق: 2].

فقد أمر الله تعالى بإشهاد ذوي عدل في الطلاق أو الرجعة وهما من الأحكام البدنية، فكانت الأحكام البدنية كلها كذلك، إلا موضع لا يطلع عليه الرجال، وجاء النص بصيغة المذكر، ولم يذكر فيه شهادة النساء، فهذا يدل على اختصاص الرجال بذلك، فلو كانت شهادة النساء جائزة هنا لنص عليها كما نص عليها في الأموال.

وكذلك ورود لفظ المذكر في الوصية ﴿شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ‌ٱثۡنَانِ ‌ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ﴾ [المائدة: 106].

وقال صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" بلفظ المذكر، فيقاس على النكاح سائر أحكام الأبدان.

واستدلوا بما رواه ابن أبي شيبة عن حفص، عن حجاج، عن الزهري، قال: مضت السنة من رسول الله والخليفتين من بعده: أنه لا تجوز شهادة النساء في الحدود.

 وبما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة: أن علي بن ابي طالب قال: لا تجوز شهادة النساء في الحدود والدماء.

 وهذان الأثران يدلان بمنطوقهما على عدم جواز شهادة النساء في الحدود والدماء، ويقاس على ما ورد في الآية والحديث والأثر بقية ما يطلع عليه الرجال غالبًا، بجامع أنها ليست بمال، ولا يقصد منها المال، والقصد من الوكالة والوصية اللتين لم يقصد منهما المال: الولاية والخلافة.

وقالوا إن شهادة النساء مع الرجال، إنما أجيزت في الأموال، لورود النص يدل على ذلك؛ فإذا أجزن في موضع خاص لم يعد بهن ذلك الموضع.

واستدلوا أيضًا بالقياس من وجهين:

الوجه الأول: قاس الجمهور أحكام الأبدان على القصاص، بجامع عدم قَبول شهادة النساء فيهما على الانفراد، فكل ما لا يقبل فيه شهادة النساء على الانفراد، لم يقبلن فيه مع الرجال.

الوجه الثاني: قياس حقوق الآدميين في غير الأموال على حقوق الله تعالى، بجامع التفاوت في الدرجة الذي يستلزم التفاوت في الإثبات، فكما أن حقوق الله تعالى أعلاها حد الزنا، فلا يثبت إلا بأربعة رجال، وأدناها الخمر، فيثبت باثنين، وجب أن يقع الفرق في حقوق الآدميين بين أعلاها وأدناها، فأعلاها حقوق الأبدان، وأدناها حقوق الأموال.

وسيأتي تفصيل أحكام الأبدان فيما يطلع عليه الرجال وما لا يطلعون عليه.

الفصل الثاني: شهادة المرأة في المعاملات المالية

(1) شهادة المرأة منفردة في الأموال:

اتفق الفقهاء الأربعة على أنه لا تجوز شهادة المرأة منفردة في

الأموال، واتفقوا على جواز شهادة المرأتين في الأموال، بشترط أن تكون المرأتان مع رجل.

(2) شهادة امرأتين مع رجل في الأموال:

اتفق الفقهاء الأربعة على أنه تجوز شهادة المرأتين في الأموال، بشرط أن يكون معهما رجل واحد على الأقل.. وهذا محل إجماع.

(3) شهادة امرأتين مع يمين المُدَّعي في الأموال:

اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

الأول: لا يجوز شهادة امرأتين مع يمين المدعي.

وهو قول الحنفية، والشافعية، ووجه عند الحنابلة

القول الثاني: يجوز شهادة امرأتين مع يمين المدعي.

وهو قول المالكية، وهو وجه عند الحنابلة.

واختاره ابن تيمية وأيده ابن القيم ونسبه القرافي لأبي حنيفة، وهو قول الظاهرية

واستدلوا بآية سورة البقرة وحديث أبي سعيد: (أَلَيْسَ شَهَادَةُ المَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟

فعلم منه أن شهادة المرأتين تقوم مقام شهادة الرجل، وأن المدعي يحلف مع نكول المدعى عليه، فأن يحلف مع امرأتن من باب أولى.

وشهادة المرأتين تقام مقام شهادة الرجل مع وجوده وعدمه، فدل على أنه يجوز شهادة المرأتين مع يمين المدعي، وليس هنا دليل يمنع ذلك.

ينظر ما سبق في المبحث الأول في الفصل الأول.

(4) شهادة المرأة لزوجها في الأموال:

اتفق الفقهاء على قبول شهادة المرأة على زوجها، ولكنهم اختلفوا في قبول شهادتها له على قولين.

(5) شهادة المرأة لأصولها وفروعها:

اتفق الفقهاء على قبول شهادة المرأة على أصولها وفروعها، ولكنهم اختلفوا في قبول شهادتها لهم على قولين.

(6) شهادة المرأة لذي رحمها:

اتفق الفقهاء على جواز شهادة المرأة لذي رحمها؛ لأن التهمة المؤثرة غير متوافرة بينهما.

الفصل الثالث: شهادة المرأة في أحوال الأسرة

ينظر ما سبق في شهادة المرأتين مع الرجل في أحكام الأبدان.

(1) شهادة المرأة في النكاح:

اختلفوا هل تصح شهادة المرأة في النكاح على قولين:

الأول: يصح النكاح بشهادة رجل وامرأتين.

وهو قول الحنفية، ورواية عند الحنابلة.

الثاني: لا تصح شهادة المرأة في النكاح.

وهو قال المالكية، والشافعية، ورواية عند الحنابلة، وهي المذهب.

واستدل الحنفية بآية سورة البقرة، لكنها ليست عامة، بل يقصد بها الشهادة على الأموال دون غيرها.

أما استدلالهم بقياس عقد النكاح على سائر عقود المعاوضة، فيجاب عنه بأن الشرع فرق بينهما فأوجب الشهادة هنا بخلاف سائر العقود.

أما أدلة القول الثاني وهم الجمهور، فهي قول الله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم).

فالآية صريحة على عدم قبول شهادة النساء في الطلاق، فالرجعة أخف حالا من الطلاق وقد أمر فيها بشاهدين من الرجال، فيصح هذا دليلا على عدم صحة شهادة المرأة في عقد النكاح.

وكذلك حديث عائشة -وهي امرأة- (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) فلفظ الشهود في الحديث بصيغة التذكير وليس مطلقا.

الدليل الثالث: أن النكاح ليس بمال، ولا المقصود منه المال، ويطلع عليه الرجال، فلم يكن للنساء في الشهادة عليه مدخل، كالحدود والقصاص.

الدليل الرابع: أن ما خص من بين جنسه بشاهدين لم يجز أن يكون أحدهما امرأة كالشهادة على الزنى.

الدليل الخامس: أن من لم يكونوا من شهود النكاح بانفرادهم لم يكونوا من شهوده مع غيرهم.

(2- 3) والأمر نفسه من حيث الأقوال والأدلة في شهادة المرأة في الطلاق، وشهادتها في الرجعة.

الفصل الرابع: شهادة المرأة فيما لا يطلع عليه الرجال

اتفق الفقهاء على قبول شهادة النساء وحدهن فيما لا يطلع عليه الرجال، كالحيض والولادة والبكارة والثيوبة، وما يخفى على الرجال من عيوب النساء، إلا أن زفَر من الحنفية خالف اتفاق الفقهاء، فقال: "لا يجوز قَبول النساء منفردات دون رجل في شيء أصلاً، لا في ولادة ولا في رضاع ولا في عيوب النساء ولا في غير ذلك".

وقال أبو حنيفة، وأحمد في رواية عنه بجواز الاقتصار على شهادة المرأة الواحدة. وقال مالك وأحمد في رواية أخرى عنه: يشترط امرأتان. وقال الشافعي: أربعة نسوة.

وتنقسم شهادة النساء فيما يتعلق بعيوبهن إلى ثلاثة أضرب:

(1) عيوب لا يجوز للرجال النظر إليها مطلقًا سواءً كانوا محارم أم أجانب، وهو ما بين السرة والركبة، كعيوب الفرج والبكارة والولادة، وهذا القسم متفق على جواز شهادة النساء فيه منفردات.

(2) ما يجوز للرجال النظر إليه مطلقًا سواء كانوا محارم أم أجانب، وهو الوجه والكفّان، وهذا لا تجوز فيه شهادة النساء منفردات.

(3) ما يجوز للمحرم النظر إليه دون الأجنبي، وهو ما تحت الركبة وفوق السرة، من الصدر والرأس والظهر والرجلين، فالفقهاء مختلفون فيه، فمنهم من أدرجه تحت القسم الأول الذي لا يطلع عليه الرجال غالبا، ومنهم من اعتبره من القسم الثاني الذي يجوز للرجال النظر إليه مطلقا، ويتمثل هذا الاختلاف في الرضاع وألحق به الاستهلال.

وقد عللّ الفقهاء قَبول شهادة النساء منفردات فيما لا يطلع عليه الرجال بعلل منها ما عليه المالكية والشافعية، وهو عدم حضور الرجال لمثل هذه الأمور الخاصة بالنساء.

نعم يمكن أن يقوم الرجال بهذه الأعمال كحالات التوليد، والنظر إلى عورات النساء مما أباحه الشارع للطبيب للضرورة، فتبقى العلة عدم حضور الرجال لمثل هذه الأمور.

الفصل الخامس: شهادة المرأة فيما يطلع عليه الرجال

(1) شهادة المرأة على الاستهلال

اتفق الفقهاء على قبول شهادة النساء مع الرجال على الاستهلال، ولكنهم اختلفوا فيما إذا انفردت النساء بالشهادة عليه هل تقبل شهادتهن أو لا؟ على قولين:

القول الأول: الجواز في شأن الصلاة على الطفل دون الإرث، وهو قول أبي حنيفة.

القول الثاني: تجوز شهادة النساء منفردات في أحكام الاستهلال مطلقا، وهو قول أبي يوسف ومحمد، ورجحه الكمال بن الهمام، وقول المالكية، والشافعية، والحنابلة، الظاهرية.

سبب الخلاف هو: اختلافهم في كون الاستهلال من الأمور الخاصة بالنساء فلا يحضرها الرجال، فتقبل فيها شهادة النساء منفردات، أم هو مما يطلع عليه الرجال، فلا تقبل شهادة النساء منفردات.

(2) شهادة المرأة في الرضاع

هل تجوز شهادة النساء منفردات في الرضاع، فيما إذا شهدت امرأة على فعل نفسها، بأنها أرضعت زوجين معا أو أحدهما، أو حضرت محضر الرضاع فشهدت مع المرضعة على ذلك، هل يفرق بينهما بقولها، أو بقولهما، أو لا؟ وهل يشترط العدد من أجل ذلك؟

اتفق الفقهاء على أنه لو شهد رجال ونساء على الرضاعة فإنها تقبل شهادته، ولكنهم اختلفوا في شهادة النساء منفردات في الرضاع هل تقبل أو لا؟ على قولين:

الأول: لا تجوز شهادة النساء منفردات في الرضاع، وهو قول الحنفية.

القول الثاني: تجوز شهادة النساء منفردات في الرضاع.

وهذا قول المالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية.

وسبب الخلاف: يرجع السبب في اختلاف الفقهاء في هذه المسألة إلى اختلافهم في اعتبار الرضاع موضع ضرورة؛ فمن قال إنه موضع ضرورة قال يجوز فيه شهادة النساء منفردات، ومن قال ليس بموضع ضرورة قال لا يجوز فيه شهادة النساء منفردات.

ورأى الجمهور أن مسألة الرضاع من المسائل الخاصة بالنساء التي لا يطلع عليها الرجال، فيصعب استدعاء الرجل للشهادة في مسألة غير مطلع عليها، وإلا يكون قد فتح الباب للرجال النظر إلى عورات النساء، وحتى لو كان الرجال من المحارم، فالغالب من أمرهم أنهم لا يحضرون مجالس النساء، والأحكام تبنى على الغالب، ولو حضروا، فحياء المرأة يدفعها إلى عدم الإرضاع أمام الرجال.

أما العدد:

فعند مالك رحمه يكتفى فيه بامرأتين، واشترط الشافعي أربع نساء بالغات حرائر عدول.

وقبل أبو حنيفة وأحمد في رواية وابن حزم شهادة الواحدة في الرضاع إذا كانت ثقة، والأفضل عندهم والأجود إن كن اثنتين أو ثلاًثا، وعن أحمد رواية أخرى، لا تقبل إلا شهادة امرأتين في الرضاع. وعنه رواية ثالثة أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة وتستحلَف مع شهادها.

وينظر المبحث الثالث من الفصل الأول.

لكنهم اتفقوا على أنه يفرق بين الزوجين بطلبهما بعد أن ثبتت حرمة العلاقة الزوجية بينهما بشهادة امرأة واحدة بالرضاع، إذا كانت ثقة، فتقع الفرقة تورعا واتقاءً للشبهات.

(3) شهادة المرأة في ثبوت النسب

اختلفوا في إثبات النسب بشهادة النساء مع الرجال على قولين:

القول الأول: الجواز، وهو قول الحنفية.

القول الثاني: عدم الجواز، وهو قول الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة.

وسبب الخلاف: ما سبق من اختلافهم في الأدلة الواردة في الكتاب والسنة هل هي مطلقة فتشمل الذكر والأنثى، أو مقيدة بالذكر.

وراجع لازمًا الفصل الأول، المبحث الرابع منه وهو: شهادة المرأتين مع الرجل في أحكام الأبدان.

(4) شهادة المرأة في الوصية

اتفق الفقهاء على عدم جواز شهادة النساء منفردات في الأموال، وجواز شهادتهن مع الرجال، واختلفوا في جواز شهادة النساء على الوصية على قولين:

الأول: يجوز شهادة رجل وامرأتين على الوصية. وهو الحنفية، ومالك في قول، وهو رواية عند الحنابلة.

الثاني: لا تجوز شهادة النساء مطلقا في الوصية، سواء أكن منفردات أم مع الرجال.

وهو قول آخر له لمالك، وقول الشافعية، ورواية عند الحنابلة.

واستدلوا بآية المائدة ورأوا أنها نص في الذكورة.

واستدل أصحاب القول الأول بعموم الآية والحديث، وبأن الوصية ليست بعقوبة، ولا هي مما يسقط بالشبهات.

(5) شهادة المرأة في ثبوت الأهلة

اختلفوا في قبول شهادة النساء في ثبوت الأهلة على قولين:

الأول: الجواز وهو الحنفية، والشافعية في قول.

وقالوا إنه من باب الإخبار، لا الشهادة.

الثاني: لا تثبت الأهلة بشهادة النساء. وهو المالكية، والشافعية في الصحيح من المذهب، والحنابلة.

(6) شهادة المرأة في القيافة

اختلف الفقهاء في قبول قول النساء في القيافة على قو لين:

القول الأول: لا يقبل قولهن فيها. وهو قول المالكية، والشافعية في قول، والحنابلة.

القول الثاني: يقبل قولهن فيها. وبه قال الشافعية في قول.

الفصل السادس: شهادة المرأة في الحدود، والجنايات، والديات

شهادة النساء في العقوبات أنواع، شهادة النساء فيما يوجب حدا أو قصاصا، وشهادتهن في جرائم التعزير البدني كالضرب والحبس ونحوهما، وشهادتهن في جرائم التعزير المالي، وسنتناول هذا الفصل كما يلي:

(1) شهادة المرأة في الحدود، والقصاص

اختلف العلماء في جواز شهادة النساء فيما يوجب حدا أو قصاصا، كالزنا، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، والجروح الموجبة للقصاص، وغيرها؟ على قولين:

القول الأول: لا تقبل شهادتهن في شيء من الحدود والقصاص، سواء كن منفردات أو مع الرجال.

وهو اتفاق الفقهاء الأربعة الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

وقد نقل الماوردي الاتفاق على ذلك فقال: «واتفقوا على أن شهادة النساء في الحدود غير مقبولة، إلا ما حكي عن عطاء، وحماد بن أبي سليمان أن شهادة النساء في الحدود مقبولة كالأموال.

القول الثاني: شهادة النساء جائزة في الحدود والقصاص، سواء كن منفردات أو مع الرجال، وهو قول ابن حزم الظاهري.

لكن تقبل شهادة امرأتين مع رجل في الحدود والقصاص ولا تقبل منفردات، وهو مروي عن عطاء بن أبي رباح، وحماد بن سليمان.

سبب الخلاف:

وسبب الخلاف بين ابن حزم والفقهاء هو الاختلاف في لدلالة لفظ الشاهد والشهادة، كما سبق.

واستدل الفقهاء بالدلالة القطعية لنصوص الكتاب والسنة، وبما يدل على الإجماع، كقول الزهري قال: مضت السنة عن رسول الله أنه لا تجوز شهادة النساء في الحدود والنكاح والطلاق.

واستدلوا بأن الحدود والقصاص مبناهما على الدرء والإسقاط بالشبهات، وشهادة النساء لا تخلو عن شبهة؛ لوجود السهو والغفلة منهن.

وقال أحد المعاصرين بقبول شهادة النساء ضرورة وليس على إطلاقها، إنما استثناءً في المواضع الخاصة بالنساء، كما لو حدث ما يوجب القصاص في أعراس النساء، وفي اجتماعهن الخاصة بهن، فتأخذ بشهادة المرأة ضرورة حفظا للحقوق، كما قبلت ضرورة في المواضع التي لا يطلع عليها الرجال.

(2) شهادة المرأة في الديات

اتفق الفقهاء على أن شهادة النساء لا تجوز فيما يوجب قصاصا، ولكنهم اختلفوا في شهادة النساء فيما يوجب الدية، على قولين:

القول الأول: يجوز شهادة امرأتين مع رجل فيما يوجب الدية.

وهو قول الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة في رواية، وهي المذهب.

وقالو: إن الدية مال، وشهادة النساء في المال جائزة.

القول الثاني: لا يجوز شهادة النساء في الديات. وبه قال الحنابلة في رواية.

وقالوا: إن ما يوجب الدية جناية، فأشبه ما يوجب القصاص.

(3) شهادة المرأة في القسامة

اختلفوا في قبول شهادة المرأة فيها على قولين:

الأول: لا يقبل قول المرأة في القسامة. وبه قال أبو حنيفة، ومالك في العمد، وأحمد.

الثاني: يقبل قول المرأة في القسامة. وبه قال مالك في الخطأ، والشافعي مطلقا.

(4) حكم شهادة النساء في جرائم التعزير البدني:

اختلفوا فيها على ثلاث أقوال:

الأول: لا تقبل شهادة النساء منفردات، وهو قول الحنفية في أظهر الاقوال.

الثاني: تقبل شهادة النساء منفردات في ذلك أو مع يمين المدعى، وهو قول ابن حزم وقول المالكية استحسانًا.

الثالث: لا تقبل شهادة النساء منفردات ولا مع رجل في جرائم التعزير البدني، ولا يقبل في ذلك أقل من شهادة رجلين عدول من المسلمين، كالقصاص وهو قول الشافعية والحنابلة ورواية عن أبي حنيفة، ووجه خطورة العقوبة البدنية فيحطاط لها بقدر الامكان.

(5) حكم شهادة النساء مع الرجال في جرائم التعزير المالي:

مثل جرائم الجنايات الموجبة للمال كقتل الخطأ وشبه العمد والعمد فيما لا يكافئه، واختلفوا الفقهاء فيها على قولين:

الأول: الجواز وهو قول الجمهور: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والظاهرية وأكثر الحنابلة، لأن الأموال تثبت بشهادة رجلين، ورجل وامرأتين.

الثاني: لا يقبل شهادة النساء في ذلك، وهو قول ابو بكر من الحنابلة.

(6) حكم شهادة النساء منفردات في جرائم التعزير المالي:

اختلفوا فيها على قولين:

الأول: لا يقبل شهادة النساء منفردات، مثل الأموال، وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة.

الثاني: تقبل شهادتهن منفردات أو شهادة امرأتين ويمين المدعى وهو قول المالكية والظاهرية، واستدلوا بأنها شهادة على مال فيصح فيها شهادة رجل ويمين المدعى، وشهادة امرأتين تحل محل رجل في الشهادة على المال.

والحمد لله رب العالمين.

 

أكاديمية أسس للأبحاث والعلوم

الكلمات الدلالية